وصلت بقراءتي، في الإنجيل بتدوين متّى، إلى الأصحاح الحادي عشر في الجزء السابع من هذه السلسلة. وقد نوّهت بأنّ في الأصحاح 11 خمس إشارات. فذكرت منها اثنتين في ج7 كي لا تطول مقالته.
الإشارة الثالثة
هي في شهادة المسيح الخاصّة بيوحنّا المعمدان، بقوله: {فإِنَّ هذا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَك}+ متّى 11: 10 وفيه إشارة إلى التالي الوارد في أسفار الأنبياء: {هأَنَذا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي...}+ مَلاخي 3: 1
وتعليقي أوّلًا: رفع الله شأن يوحنّا المعمدان إلى درجة الملائكة في العهد القديم ورفعه السيد المسيح، في العهد الجديد وتحديدًا في الآية السابقة (أي متّى 11: 9) إلى درجة أفضل ممّا للأنبياء. وهنا قال القديس يوحنا الذهبيّ الفم- بتصرف في ما ورد في تفسير القمص تادرس يعقوب سِفر مَلاخي\3 [يوحنا المعمدان أعظم من الأنبياء لسببين؛ الأوّل: إشارته بإصبعه إلى المسيح، بأنه جاء حقًا، قائلا: {هُوَذا حَمَلُ االله الذي يَحمِل خَطيّة العالم}+ يوحنّا 1: 29 بينما اقتصرت أدوار الأنبياء الآخرين على التنبّؤ عن مجيئه وعن حياته. ثانيًا: أهمية رسالة يوحنا إذْ أعلن عن مجيء الرب. فانتمى إلى طغمة الملائكة، روحيًّا وليس حسب الطبيعة] انتهى
وتعليقي ثانيًا: ورد في التفسير المذكور أيضًا أنّ اليهود [حاولوا تقديم تفاسير متنوعة لهذا النّصّ؛ فادّعى بعضهم أن ملاخي يتحدث عن نفسه كملاك الرب. وادّعى آخرون أنه يُشير إلى ملاك الموت الذي يقود الأشرار ليطرحهم في نار جهنم] انتهى. فشهادة المسيح ليوحنّا المعمدان فَنَّدت ادّعاء هذا على مَلاخي النبيّ ودحضت تفسير ذاك.
الإشارة الرابعة
هي في قول المسيح للجموع عن يوحنّا المعمدان: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فهذا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ}+ متّى 11: 14 وفيه إشارة إلى سِفر ملاخي 4: 5 {هأَنَذا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبّ...} وهنا علّق الخوري يوسف داود (1) في هامش ترجمته الكتاب المقدَّس بالقول: [هو (أي يوحنّا المعمدان) بالروح كإيليّا لا هو عينه* طالِعْ لوقا 1: 17] فلمّا طالعت آية لوقا المقصودة وجدت: {ويَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ برُوحِ إِيلِيَّا وقُوَّتِهِ...} وتعليقي: هكذا فسَّر الكتابُ المقدَّس نفسَه بنفسِه. وفي رأيي؛ لا يحتاج الكتاب المقدَّس إلى مفسِّر إذا ما تعمّق قارئه باحثًا فيه ومدقِّقًا. وهذا الرأي لا يعني الاستغناء عن تفاسير آباء الكنيسة، القدامى منهم والجدد، لأنها تسهِّل على القارئ-ة مهامّ الفهم والبحث والتدقيق وتوفّر عليهما الوقت أيضًا. ولي في لوقا الإنجيلي خير مثال؛ فالرجل من خلفية أمميّة (لا يهوديَّة ولا مسيحيّة) تتلمذ على يد بولس الرسول، وتَتَبَّع كُلَّ شيء بتدقيق (لوقا 1: 3) فكَتَبَ الإنجيلَ المسمّى باٌسمه وكتب سِفرَ أعمال الرُّسل أيضًا.
وبالمناسبة فإنّ آية متّى 11: 14 قد اتخذها المبشِّر الإسلامي المذكور في مقالتي (2) التي عنوانها "في الطريق إلى دائرة البريد" حجّة على أنّها نبوءة عن ميرزا غلام أحمد القادياني، زعيم الطائفة الأحمدية، بصفته "المسيح المنتظر" ويا لها من خزعبلة! فتركت ذِكر هذه الخزعبلة لهذه المناسبة، إذ قررت الاستمرار في كتابة أجزاء هذه السلسلة خلال كتابة المقالة المذكورة. فنُشِر عدد من أجزائها بعد نشر المقالة بحوالي أسبوع.
الإشارة الخامسة
هي في قول السيد المسيح {تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وأَنا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي (3) عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وحِمْلِي خَفِيف}+ متّى 11: 28-30 ففي قوله {فتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ} إشارة إلى ما ورد في آية إرميا 6: 16 {هكَذا قالَ الرَّبُّ: قِفُوا عَلَى الطُّرُقِ وَانْظُرُوا، وَاسْأَلُوا عَنِ السُّبُلِ القدِيمَة: أَيْنَ هُوَ الطَّرِيقُ الصَّالِحُ؟ وَسِيرُوا فِيهِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. ولكِنَّهُمْ قالُوا: لا نَسِيرُ فِيه} ومقولة الكتاب المقدَّس عمومًا {فتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ} قد يمرّ عليها القارئ-ة بدون تأمّل في عمق معناها، والمعنى مهمّ جدًّا وإلّا لَما ركّز عليه السيد المسيح. فأوّلًا؛ يوجد تناغم رائع ما بين قول الرب في متّى وبين قول الرب في آية إرميا، وهو أنّ الرب في آية إرميا قال: {قِفُوا عَلَى الطُّرُقِ وَاسْأَلُوا: أَيْنَ هُوَ الطَّرِيقُ الصَّالِحُ؟} والرب يريد أن طريقه هو الطريق الصالح الذي يجلب الراحة للنفوس إلى الأبد. والرب في آية متّى قال: {تَعَالَوْا إِلَيَّ} والرب يريد أيضًا أن يأتي الناس بأحمالهم إليه، لأن طريقه يجلب لهم راحة النفوس إلى الأبد. فالربّ واحد سواء في آية إرميا وفي آية متّى.
وتاليًا أنّ راحة النفوس، التي اهتمّ بها الرب قرونًا قبل ميلاد المسيح ثم ركّز السيد المسيح عليها بعد مجيئه، ليست مسألة عادية، إذ اعتدنا على سماعها في زماننا، إنما مسألة حسّاسة في حياة الناس عبر التاريخ؛ لأنّ الإنسان، في غياب الراحة النفسية، لا يُحسِن التفكير والعمل والعيش بسلام. فلا طريق إلى الراحة والسلام إلّا طريق المحبّة الذي أعَدّه الله للإنسان منذ تأسيس العالم. فأكمله المسيح، خلال مراحل نموّ الإنسان بالنعمة روحيًّا وبعد تطوّره فكريًّا، وأظهره بأحسن وجه ممكن.
وراحة النفوس تشمل راحة الضمير وراحة القلب. وهذا ما سنرى في تفسير هنري أ. أيرونسايد (4) بتصرّف: [إنّ مَن يستبدل عبء الخطيئة الثقيل بنير الخضوع للرب المجيد يجد أنها لَبَرَكة أن يخدم المسيح بصفته معلّمًا صالحًا. فكثيرون ينكمشون ويتراجعون عن الخضوع لنِيره، خوفًا من أن يتطلب هذا الخضوع تضحيات أعظم مما هم مستعدون للقيام به. لكن جميع الذين يعترفون بسلطانه ويدمجون إرادتهم بإرادته يجدون أنهم يدخلون إلى راحة لم يعرفها المُتعَبون والثقيلو الأحمال في هذا العالم أبدًا. والراحة التي يقدمها الرب يسوع مجّانًا لكلّ الذين يأتون إليه اثنتان؛ الأولى: راحة الضمير فيما يتعلق بمسألة الخطيّة، فإن النفس المحزونة، المحترقة بالإحساس بالذنب، تأتي إليه فتجد سلامًا مع الله، بالرب يَسُوعَ المَسِيح، عندما تؤمن بالمسيح حاملًا عن العالم جميع خطاياه. وتاليًا راحة الضمير مرادفة لهذا السلام، والذي هو نصيب جميع الذين يتبررون بالإيمان (رومية 5: 1)
والثانية: راحة القلب. فإنّ الظروف المعاكسة قد تنشأ لتُنذِر القلب وتملأه بالخوف والقلق، لكنّ من يحمل نير المسيح ويتعلّم منه يستطيع أن يكون هادئًا وسط العاصفة. فيجد راحة تامة، إذْ يأتمِن المسيحَ على كل شيء، واثقًا بأنه هو الذي يُسكِّن الأمواج العاتية. وتاليًا راحة القلب هي نفسها {سَلامُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل}+ فيلبي 4: 6-7 ليستمتع بها الذين يتعلمون أنْ يسلِّموا كلّ شيء للرب] آمين.