هلْ مِن المعقول أن يصلّي اللهُ للإنسان أو عليه؟ هل يستطيع عاقل تصوّر الله، مالئ الكون وشاغل الناس، وهو راكع حاني الظهر، مصلِّيًا لأجل إنسان خلقه، أيًّا بلغت منزلة هذا الإنسان في نظر الله ومهما كلَّفه بمهمّات ورسائل؟ هل صلّى الله لإبراهيم؟ بل العكس. هل صلّى الله لموسى وداود؟ بل العكس. فكيف يصلِّي الله على إنسان؟ هل وُجِد معنًى آخر للصلاة عند العرب ما قبل الإسلام؟ هذا ما سأبحث عنه الآن.
الصلاة في شعر العرب القدامى قبل الإسلام
سيقتصر بحثي على الشعر لأني عرفت أوزانه جميعًا وبإتقان فأستطيع تصحيح أيّة غلطة لغويّة محتملة في نقله بالتواتر، أمّا البحث عن مقالات قديمة متعلِّقة بموضوع الصلاة فسأكتفي بتفسير فقهاء المسلمين بعد قليل. وسوف أضع "صلّى على" بين هذين المزدوجين { } لكي يعرف القارئ-ة جذور هذه العبارة ما قبل الإسلام. فقد ذكر الأب لويس شيخو اليسوعي- رحمه الله- في كتابه "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية" ج2 التالي بتصرّف:
[إنّ الصلاة قد تكرر ذكرها في شعر النصارى قبل عهد الإسلام. وأكثر ما تمّ في الصلاة سجود النصارى والركوع والتسبيح. والرهبان قد صلّوا على الخمر في التقديس. قال الأعشى قيس واصفًا خمرًا:
لها حارسٌ لا يبرحُ الدهرَ بيتها – وإنْ ذُبِحَتْ {صلّى عليها} وزَمزَما
بِبابلَ لمْ تُعْصَرْ فجاءتْ سُلافَةً ـــ تُخالِطُ قِنْدِيدًا ومِسكاً مُختَّمَا
يَطُوفُ بهَا سَاقٍ عَلَيْنا مُتَوَّمٌ ـــ خفيفٌ ذفيفٌ ما يزالُ مفدَّما
ومثله ما روينا عن أيمن بن خُزَيم في خمر جرجان- الأغاني 16: 45
وصَهْبَاءَ جُرْجانِيَّةٍ لَمْ يَطُفْ بها – حَنيفٌ ولَمْ تَنْغَرْ بها سَاعَةً قِدْرُ
ولَم يَشْهَدِ القَشُّ المُهَينِمُ نارَها – طَرُوقًا ولا {صَلَّى عَلَى} طَبْخِها حَبْرُ
وإليك الآن قول مَن صلّى إلى الله كالقس النصراني ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل- من أشهر الموحِّدين قبل الإسلام- قال ورقة عن صلاته في البِيعة، بكسر الباء، أي الكنيسة:
أدِينُ لربٍّ يستجيبُ ولا أرى – أدين لمَنْ لا يسمع الدهر واعيا
أقول إذا صَلّيتُ في كلّ بِيعةٍ – تباركتَ قد أكثرتُ باٌسمِكَ داعيا
وقال زيد في قصيدة إنّه يعبد الله (أي يُصلِّي لله) لكي يغفر الله ذنوبه:
أربًّا واحدًا أم ألفَ ربٍّ – أدِينُ إذا تقسّمتِ الأمورُ
ولكنْ أعبُدُ الرَّحمانَ ربّي – ليغفرَ ذنبيَ الرَّبُّ الغفورُ] انتهى
وخلاصة ما تقدّم أنّ {صلّى لله على أو صلّى إلى الله} تعني أنّ المُصَلِّي التمس نعمة من الله، أو بركة أو كليهما، لَعَلَّها تحلّ عليه أو على المصلّى عليه. وجذور هذه العبارة سرياني "صلاو عْلَيْ" نجدها مألوفة في القُدّاس الإلهي السرياني، ما قبل الإسلام حتّى يومنا هذا. كذا الصلوات الخاصّة بمناسبات كالمعمودية والزواج والمرض. والمعنى واضح بتخصيص الصلاة لله بمعناها المذكور في ج10 أوَّلا. فإذا استجاب الله فأنعَمَ فلا تعني الاستجابة أنّ الله "صلّى" بل تعني أنّ الله، ببساطة شديدة، قد قَبِلَ الصلاة فأنعَمَ وبارَك.
وإليك شيئًا ممّا قال أمَيَّة بن أبي الصَّلت في الملائكة، بالعودة إلى المصدر نفسه- النصرانية وآدابها...: [فقد ذكرت العربُ "الكروبيّة" مِن طغمات الملائكة وهُم الكروبيم؛ وصفهم في "تاج العروس" بسادة الملائكة والمقرَّبين إلى حَمَلة العرش، كقول أميّة- في التاج 2: 454
فنِعْمَ العِبَادُ المصطفَونَ لأمرِهِ – ومِنْ دُونِهِمْ جُندٌ كثيفٌ مُجنَّدُ
ملائكةٌ لا يفتُرون عبادةً – كروبيّةٌ منهمْ ركوعٌ وسُجَّدُ
فساجدُهُمْ لا يرفعُ الدهرَ رأسَه – يُعظِّمُ ربًّا {فوقَهُ} ويمجِّدُ
وراكعُهُمْ يحنو له الظهرَ خاشعًا – يردِّدُ آلاءَ الإله ويحمدُ
وقد دُعِي الراهب بالراكع لكثرة صلاته، ومِثلُهُ الحنيف مرادف الراهب. ففي تاج العروس 5: 363 سَمَّت العرب في "الجاهلية" الحنيفَ راكِعًا إذا لم يعبد الأوثان] انتهى.
وقد رأينا في الأبيات الأخيرة وصفًا لركوع الملائكة وسجودهم، ممّا جال في خيال الشاعر، ومنزلة الرّبّ الإله فوق منازلهم. فالصلاة تتجه إلى فوق، إلى الله، ليس العكس.
الصلاة في القرآن
وردت الصلاة في القرآن بأزيد من معنى؛ مختلف عليه بين مفسِّري القرآن، كما جرت العادة، لأنهم لم يعرفوا جذور الصلاة. فلفتني من معانيها اثنان؛ إذ اتفق الأوّل نسبيًّا مع الوارد في الكتاب المقدَّس، وتحديدًا قول المؤلِّف: (وصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ)-التوبة:103 والمعنى في تفسير الطبري: [وادعُ لهم بالمغفرة لذنوبهم واستغفر لهم منها إنّ دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم بأنّ الله قد عفا عنهم وقَبِلَ توبتهم] انتهى.
وتعليقي: كيف تتفق الجزئية القائلة (طمأنينة لهم بأنّ الله قد عفا عنهم وقَبِلَ توبتهم) مع حديث رواه مسلم في صحيحه؛ كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، عن رسول الإسلام أنه قال: (لن ينجي أحدًا منكم عملُه قال رجلٌ ولا إيّاك يا رسول الله قال ولا إيّاي إلّا أن يتغمَّدني الله منه برحمة...) ما يعني أنّ محمّدًا لم يضمن لنفسه الجنّة إلّا أن يتغمَّده الله منه برحمة. فكيف اطمأنّ أصحابه إلى جنّة الإسلام وإلى شفاعة محمد لهم يوم القيامة؟ والجواب: لا أزيد على ما تفضّل به أحد مفكّري الإسلام في إحدى محاضراته القيّمة عن الجنّة- على يوتيوب (حوالي 8 دقائق) تحت عنوان: [أحمد القبانجي عالم شيعي يشبّه الجَنّة بحظيرة الأغنام] وفيها ما معناه (أن الجنّة والنار في الإسلام على خلاف العقل وأنّ محمّدًا كان يطمّع بها أصحابه من الجوعى والعُراة... إلخ) عِلمًا أنّ شاعر العراق الكبير معروف الرصافي اعتبر جنّة القرآن مِن (المُرَغِّبات المعنوية في الجهاد) في كتابه " الشخصية المحمدية أو حلّ اللغز المقدَّس " ص 287
وتاليًا؛ قد أشرت إلى صلاة شخص لأجْل آخَر-ين في الجزء السابق بقول الإنجيل: {وصَلُّوا بَعضُكُمْ لأَجْلِ بَعْض، لِكَيْ تُشْفَوا...} وإنْ لم تقتصر هذه الوصية على صلاة المؤمنين بَعضًا لبَعض! إذ وصّى السيد المسيح بالصلاة لأجل المسيئين إليهم أيضًا: {وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ...}+ متّى 5: 44
أمّا الثاني فقد اختلف عن معنى الصلاة المألوفة في الكتاب المقدَّس، بعهديه الجديد والقديم؛ هو في قوله: (إن الله وملائكته يصلُّون على النبي...)- سورة الأحزاب:56 وخالف معنى الصلاة وتوجّهها ما قبل الإسلام، كما بيَّنت أعلى. وقد رأيتُ في قوله المذكور ثلاث مسائل- هي التالي من وجهة نظري شخصيًّا:
الأولى: واضحٌ لي أن اتجاه الصلاة قد انعكس في القرآن، على خلاف ما تقدّم، فاتّجهَتْ من أعلى إلى أسفل؛ أي من الله والملائكة إلى العبد (محمد) الذي كان على قيد الحياة، لأنّ الفعل المضارع "يصلُّون" يُفيد الحاضر.
والثانية: دلّ قوله على الشِّرك بالله لأنّ "النبيّ" وضع نفسه سيّدًا على عرش الله، جاعلًا الله وملائكته يصلُّون عليه، كأنهم يصلّون لإله آخر؛ لأنّ الله، إذا صلّى الصلاة المعروفة والمألوفة، فالمعنى يوحي إلى وجود إله آخر فوقه- حاشا الله- فالمذكور في الأحزاب:56 ليس ضربًا من خيال المؤلّف فحَسْبُ، إنّما ضرب من الوَهْم. والمتخصِّص في المسائل النفسية أو العصبية أدرى مني. عِلمًا أنّ ذلك الخيال استدعى دراسة لُغْز الوحي القرآني؛ إذ سبق للشاعر الرصافي كشف النقاب عنه في القرن الماضي بكتابه المذكور أعلى، كما سبق للمفكر اللبناني المغدور مصطفى جحا كشفه بكتابه "محنة العقل في الإسلام" وقد كُتِب الكتابان في ضوء "السيرة النبوية" لابن هشام والسيرة الحلبية. وهما متوفِّران على گوگل وغيره. أمّا حاليًّا؛ فقد نجح المفكّر المصري حامد عبد الصمد في الكشف عن اللغز المذكور، عبر حلقات برنامجه الناجح "صندوق الإسلام" ولا سيّما (الحلقة الثامنة عشرة- لغز الوحي: من أين جاء القرآن؟) وإليك الرابط:
www.youtube.com/watch?v=clCug1P_l_I
والثالثة: أنّ جَمْعَ المؤلِّف بين الله وملائكته بواو العطف قد وضع الملائكة في منزلة الله- حاشا الله- لأنّ هذا من دلائل الشِّرك بالله، مثلما أشرك بقوله "الله ورسوله" في أزيد من موضع في القرآن، كذا نجد في الأحاديث المحمدية وفي أبوابها.
وقد سبق لي أن أشرت إلى أن ناسخ الكتاب المقدَّس اليهودي استخدم ختمًا خاصًّا بلفظ الجلالة الذي بالعبرية؛ من خشية الله، مُعظِّمًا قَدْرَه- جلّ قدرُه- وهذا لكي يميّز لفظ الجلالة من غيره فلا يبدو لفظًا عاديًّا مثل سائر الألفاظ. لذا لا يجوز عطف المخلوق على الخالق بصفة ولا فعل وما شابه. فلو كان القرآن موحًى به من الله لتنزّه عن الجمع أو الخلط أو الربط، لأنّ الوحي الحقيقي منزَّه عن الغفلة والنسيان والإهمال .
الدحض والتفنيد في سؤال الأخ رشيد
لقد عثرت على حلقة للأخ رشيد متعلِّقة بسورة الأحزاب:56 خلال فترة كتابة هذا الجزء من المقالة، فوجدت لديه نظرة الشِّرك عينها تجاه هذه المقولة القرآنية. ما دعاني إلى ترك البحث عن تبريرات مفسِّري القرآن للأحزاب:56 بالتلاعب بالألفاظ العربية وبمعانيها، ممّا كان قلمي عازمًا على دحضه وتفنيده، لأنّ حلقة الأخ رشيد (سؤال جريء 349 ما معنى صلى الله عليه وسلم؟) كفت ووفّت. وإليك الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=LbG-J7bL-OE