وصلت بالبحث في الإنجيل، بتدوين متّى، إلى الأصحاح السابع عشر. وفيه بحسب تسلسل الآيات 2 تَجَلِّي السيد المسيح 10 يوحنّا المعمدان وإيليّا 17 إبراء المصروع 19 قوّة الإيمان 22 إنباء المسيح تلاميذه مرة ثانية بموته وقيامته 24 تأدية الدِّرهَمَين لنفقات الهيكل.
ومعلوم أن عددًا من هذه الأحداث قد نجده مدوَّنًا في إنجيل مرقس أو إنجيل لوقا أو كليهما، وقد نجده أيضًا في إنجيل يوحنّا، لأنّ كلًّا من الأربعة كتب إنجيله، بإرشاد الروح القدس، إلى جهة معيَّنة. فمثالًا من هنا: حادثة التجلّي؛ مدوَّنة في مرقس\9 (أي إنجيل مرقس- الأصحاح التاسع) وفي لوقا\9 أيضًا.
وبالمناسبة؛ كتب مَتّى إنجيله بشكل عام إلى الأمم كلِّها (متى 28: 18-20) وبشكل خاصّ إلى اليهود الذين آمنوا بالرب يسوع، كأنما قدَّم لهم التوراة الجديدة (الإنجيل) وموسى الجديد (يسوع المسيح) عِلمًا أنّ بعض اللاهوتيّين، حسب إحدى دراساتي، قسَّموا إنجيل متّى إلى خمسة أقسام، لا أستطيع تذكّر عناوينها الآن، لكنّها حسب موقع الكلمة.نت- إنجيل متّى: [دستور ملكوت الله، واجبات القادة، أمثال الملكوت، الغفران والتسامح، مجيء ربّ الملكوت] في مقابل أسفار التوراة الخمسة: التكوين+ الخروج+ اللاويّين+ العدد+ التثنية.
ردًّا على نقد
كتب أحد النُّقّاد الإسلاميِّين تعليقًا على إحدى مقالاتي المنشورة على فيسبوك موقع لينغا ما معناه: (أيّ إنجيل نقرأ فإنّ "الأناجيل" كثيرة؟) انتهى.
والجواب: إنّ الإنجيل واحد! لكنّ المدوِّنِين أزيد مِن واحد؛ كلّ منهم كتب عن السيد المسيح في وقت ما من زاوية ما إلى جهة ما، مثلما يصف أربعة أشخاص شجرة واحدة وهم ينظرون إليها من أربع جهات لتغطية أوصافها. ولهذا فسَّر الإنجيل نفسه بنفسه. فإذا رأيت عند أحدهم معجزة مدوّنة أيضًا عند آخر، فهاتان شهادتان على أنّ المعجزة صحيحة، لأنّها مرئيّة من زاويتين أو ثلاث. عِلمًا أنّ شهادة شخص واحد لا تكفي أمام القضاء. ومن المستحيل هندسيًّا أن تتطابق نظرتان من جهتين مختلفتين وخلال وقتين مختلفين أيضًا، لكنّ هذا لا يعني أن النظرتين متناقضتان، بل كمّلت إحداهما الأخرى لوصف الشجرة.
ـــ
وفي مناسبة أخرى؛ علَّق ناقد إسلامي ثانٍ، مستنكرًا قول المسيح على الصليب {يا أَبَتاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذا يَفْعَلُونَ}+ لوقا 23: 34 فكتب ما معناه، إذا أسعفتني الذاكرة: (لقد انفرد لوقا بتدوين هذه الآية، فقام اليهود بتحريف إنجيله، والهدف: تبرئة اليهود من دم المسيح) انتهى.
والجواب: يهمّني أن أعرف أوَّلًا؛ هل آمنتَ أيّها الإسلامي بصَلب المسيح، على خلاف ما زعم القرآن في سورة النساء:157؟ هذا بغضّ النظر عمّا قال المسيح وهو على الصليب. فإن آمنت فليكن لك بحسب إيمانك ولطفًا العودة إلى آية متّى 9: 29 وما سبقها. أمّا إذا بقيت على ما أنت فيه من جهل بالعقيدة المسيحيّة فلا أظنّك جاهِلًا غفران السيد المسيح لأعدائه وتسامحه معهم ومع سائر الخَطَأة بقوله: {أحِبّوا أعداءَكم...} فالسيد المسيح فَعَل ما قال في أصعب الظروف! كما أنّ خطّ الوحي، في الإنجيل كلّه، متطابق مع منهج السيد المسيح في المحبة والغفران سواء في سِفر لوقا وفي غيره. واعلم أن السيد المسيح ما أتى إلى العالم لِيَدِينَ الْعَالَمَ (يوحنّا 3: 17) بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ.
وتاليًا؛ إذا كنت من هواة التفتيش، أرى الأحرى بك أن تفتِّش عن داعية كَذّاب قال شيئًا ولم يعمل به بل فعل على عكس ما قال، ففرض قولَهُ على غيره ولم يطبّقه على نفسه.
ثانيًا: دعني أضِفْ إلى معلوماتك الشائكة أنّ لوقا الإنجيلي لم يكن أصلًا من الشهود على صلب المسيح، إنّما بَدَأ بإنجيله هكذا {إذْ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور الْمُتَيَقَّنَةِ عندنا، كما سلَّمَها إلينا الذين كانوا منذ البدء مُعاينِين وخُدّامًا للكلمة، رأيتُ أنا أيضًا إذ قَدْ تَتَبَّعْتُ كل شيء من الأوَّل بتدقيق، أنْ أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوُفِيلُسُ، لتعرف صحّة الكلام الذي عُلِّمْتَ به}+لوقا 1: 1-4
فعليك التأمّل جيِّدًا في معاني كلمات هذا النَّصّ. والأفضل لك الاستعانة بتفسير مسيحي إذا أردت أن تصبح واحدًا من الباحثين عن الحقّ. أمّا إذا اعتراك شَكّ فإنّ ما يدعو إلى الاطمئنان هو أنّ آباء الكنيسة قرَّروا صحّة إنجيل لوقا بالإجماع، بما في نتائج الصحّة من سلامة وأمانة ومصداقية ودقّة. وقرار أولئك الآباء قد تمّ اتّخاذه بإرشاد الروح القدس. عِلمًا أنّ إرشاد الروح القدس لا يُضاهيه إرشاد. فمِن أثمار إرشاد الروح القدس: شهادة أولئك الآباء على صحّة جميع أسفار الكتاب المقدَّس وعلى قدسيّتها. فلا مجال في النهاية لأيّ افتراء على الكتاب المقدَّس ولن تنفع أيّة محاولة للطعن في قدسيّته.
ثالثًا: إنّ توجيه أصابع اتّهام إلى اليهود في كل صغيرة وكبيرة ليس من العدل بشيء ولا من حجّة مُقنِعة، إنّما من جهلك، أي أنّ العيب فيك، ما لم يكن مِن حَسَدك أو خبثك وغيره. فلا أنت ولا واحدَ مِن مرجعيّتك ولا واحد من المُلحِدين الغربيِّين ولا سيَّما الذين نقل الدجّال أحمد ديدات وغيره مِن نقدِهم، استطاع إثبات وجود تحريف ما في الكتاب المقدَّس أو تزييف أو أيّ تدخّل بشري مزعوم. ومعلوم أن الله القدير قادر على أن يحفظ كلامه ويسهر عليه: {فقالَ الرَّبُّ لِي: أَحْسَنْتَ الرُّؤْيَةَ، لأَنِّي أَنا سَاهِرٌ عَلَى كَلِمَتِي لأُجرِيَها}+إرميا 1: 12
رابعًا: لدى اليهود كتاب مقدَّس وهم مقتنعون به. وقد انتشر الإنجيل بعد كتابهم بفترة. فإذا أراد أحدهم- افتراضًا- تحريف كتاب ما أو تزييفه فإنه يؤلِّف كتابًا ما ليغيّر ما سَبَق لا ما لحِق! لكنْ مَن يكون المحرِّف اليهودي المفترَض؟ أين "إنجيله" وبأيّة لغة كتبه؟ ماذا حرَّف أيضًا؟ أين قام بالتحريف المزعوم ومتى؟ ما مركزه دينيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا؟ لماذا لم يُحرِّف ما ظنّ النّقّاد الإسلاميّون به مُخالِفًا الأخلاق العامّة ممّا في كتابه المقدَّس؟ وإليك مفاجأتين جديدتين؛ الأولى: أين سيجد المخطوطات الأصلية وكيف يخترق نظام المحافظة عليها ومَن الذي يسمح له بتحريفها وما الذي يضمن له سهولة التحريف؟ والثانية: لماذا يحاول تحريف إنجيل لوقا الموجَّه إلى أمم وثنيّة لم تعرف الله ولا يحاول تحريف إنجيل كتبه يهوديّ مِن أبناء جلدته (متّى الإنجيلي) ووجَّهه إلى يهود- عَبَدة الله- ممّن آمنوا بالمسيح {ابن الله} لِما في هذا الإنجيل مِن أخبار لم تصبّ في مصلحة اليهود؟
أخيرًا؛ يؤسفني القول إنّ الجهل مطبق على تعليقات الإسلاميّين، ممّا تلقّيت منهم حتّى الآن؛ إذْ تركوا الكتاب المقدَّس، كلام الله المدوَّن لخلاص النفوس، ولهثوا وراء نسخ الانتقادات الموجَّهة ضدَّه للصقها على صفحات المواقع المتسامحة ولا سيّما المسيحية.
ـــ ـــ ـــ
الإشارة الأولى
وجدت في الأصحاح الـ 17 إشارتين إلى العهد القديم؛ أولاهما في التالي: {وسأله تلاميذه قائلين: فلماذا يقول الكتبة: إنّ إيليّا ينبغي أن يأتي أوّلًا؟ فأجاب يسوع وقال لهم: إنّ إيليّا يأتي أولًا، ويرُدّ كلّ شيء. ولكني أقول لكم أن إيليّا قد جاء ولم يعرفوه، بل عَمِلوا به كل ما أرادوا}+متّى 17: 10-12 والإشارة إلى الوارد في سِفر مَلاخي: {هأَنَذا أُرسِل إليكم إيليّا النبيّ قبل مجيء يوم الرب...}+ملاخي 4: 5
وإليك تفسيرًا مسيحيًّا- بتصرّف: [كان لكتبة اليهود معرفة نظريّة، فقد فهموا من النبوّات أن إيليّا يسبق مجيء المَسِيّا. جاء لكنهم لم يعرفوه ولا قبلوه، إنّما عملوا به ما أرادوا. مَن إيليّا الذي سبق المسيح إلا يوحنّا المعمدان، إذْ فَهِم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنّا المعمدان (بالآية التالية) لقد جاء يوحنّا بروح إيليّا (أنظر-ي أيضًا لوقا 1: 17) لا بمعنى أنّ يوحنّا تقمَّص روحَ إيليّا، إنما حمل فكره الناري وغيرته الملتهبة على مجد الله، وحياته النُسكيّة في البرّيّة، ليمهّد الطريق بالتوبة من أجل المَسِيّا المخلّص. فإنْ كان سيِّدنا قد جاء مترفّقًا بنا ولطيفًا للغاية مشتهيًا خلاصنا، يلزمنا أن يدخل إيليّا الغيور إلى حياتنا ليهيّئ القلب للمخلِّص بالمناداة بالتوبة. إن كان التجلّي هو إعلان ملكوت الله السماوي فينا فلا طريق لهذا التجلّي فينا بدون إيليّا، أي التوبة]- بقلم القُمُّص تادرس يعقوب.
الإشارة الثانية
هي في قول اليهود لبطرس: {أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ الدِّرْهَمَين؟}+متّى 17: 24 والإشارة إلى الخروج 30: 11-16 والملوك الثاني 12: 4، 5 ونحميا 10: 32
وفي التفسير المسيحي- بتصرّف: [كان الدرهمان مبلغًا صغيرًا من المال يوازي نصف شاقل. وكان واجبًا على كل يهودي أن يدفعه لنفقات الهيكل والعبادة المتعلقة به. فالمنتظر من كل يهودي أمين لديانته دفع هذا الرسم سنويًّا بمحض اختياره. فسألوا بطرس {أما يوفي مُعَلمكم الدرهمين؟} أي: هل مُعَلِّمُكم يهودي أمين لديانته، فجاوبهم: {بلى} أي: يقوم بكل ما يجب القيام به. لذلك؛ عند دخول المسيح البيت ابتدر بطرس بسؤاله عن الأساس الذي بنى عليه جوابه، فسأله عن عادة ملوك الأرض في أخذ الجباية؛ أيأخذونها مِن بنيهم (أي أهل بيوتهم أو العائلة الملكية) أم من الأجانب (أي من الرعية)؟ فأصاب بطرس بجوابه {مِن الأجانب} لأنّ مِن المعلوم أنّ الملوك لا يضعون الضرائب على بَنِيهِم {قال له يسوع فإذًا البنون أحرار} أي ليس عليهم أن يدفعوا الجباية {ولكن لئلا نُعثرهم إذهب إلى البحر… إلخ} فنرى هنا قصد الوحي من إدراج هذه الحادثة هو أنَّ الرب جَمَعَ بطرس وغيره مِن خاصَّته مع نفسه كأبناء الله صاحب الهيكل.
وتاليًا؛ كان اليهود مُصِيبين بدفع هذه الجباية لله كرعية. أمّا المسيح وأتباعه كبنين لم يكونوا من الموضوعين تحت قوانين الهيكل (أنظر-ي إشعياء8: 16-18) حيث نرى المسيح مرفوضًا من إسرائيل وتلاميذه مُفرَزين له وهو {مصطبِر لِلرَّبِّ السَّاتِر وَجْهَهُ عَنْ بَيْتِ يَعقُوبَ} أمّا تلاميذه فهُمْ بالحقيقة أولاد مُعطَون له {مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْجُنُودِ السَّاكِنِ فِي جَبَلِ صِهْيَوْنَ} فاٌنظُر-ي أيضًا قوله {إنّي أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم}+ يوحنا 20: 17 نَعَمْ؛ هذه الحقائق الجميلة لم تُعلَن إعلانًا تامًّا إلّا بعد قيامته، لكنه قد أشار إليها هنا وأمر بدفع الدرهمين عنه وعن بطرس لقطع أسباب العثرة فقط. وكما أن المسيح أظهر معرفته الإلهية، إذ سأل بطرس سؤالًا عما جرى خارج البيت، هكذا أظهر قدرته الإلهية وسيادته على خليقة الله، إذ جعل سمكة تأتي بالمبلغ المطلوب. كان ابنَ الله، لكنه ترك حقوقه في العالم في الوقت الحاضر وعَلَّمَ تلاميذه أنْ يتصرَّفوا مثله، كمُقامِين مقامَهُ وهو غائب؛ وديعِين ومتواضعِي القلب، كغرباء ونزلاء، لا رؤساء ولا سلاطين]- بقلم بنيامين بنكرتن.