عالجت في الجزء الثاني من هذه الدّراسة مفهوم الدّين، وكيف أنه يوجد في عالمنا اليوم ديانات وعقائد ومبادئ وفلسفات وأيديولوجيّات مختلفة. وفي جميع هذه الديانات والعقائد والفلسفات المنتشرة في العالم، يمكن الغاء شخصيّة مؤسس أو نبي أو رسول الدين أو الفلسفة، ومع ذلك تبقى الفلسفة ويستمر الدين موجوداً بأركانه وشريعته ومبادئه وطقوسه وعباداته ورجالاته. أما المسيحيّة فلا يمكن منطقيّاً وقانونيّاً مقارنتها أو وضعها بين جملة هذه الديانات والعقائد
مات جميع مؤسسي ديانات العالم، واتباعهم سيموتون مثلهم، وهذه حقيقة نجدها حتّى في كتب وتعاليم ديانات العالم. بعكس المسيحيّة، حيث يمثل حضور الرّب يسوع المسيح الحي في الكنيسة وفي حياة كل من يؤمن به في العالم، ألأساس الوحيد للحياة المسيحية. لأن لسان حال المؤمن المسيحي يقول: المسيح حياتنا واساس رجاؤنا "لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ". (أعمال الرّسل 28:17).
يجب أن أذكر هنا بأنه توجد بعض التعاليم الجيّدة في ديانات العالم، ولكن ذلك لا يمكن أن يقود الى الإستنتاج بان هذه الدّيانات هي من الله. فحتى الدّيانات التي تنكر وجود اله مثل البوذيّة، أو التي تقول بوجود ملايين الآلهة مثل الهندوسيّة، هذه الدّيانات تقدم لاتباعها وللعالم تعاليم جيدة قد تسمو في بعضها على ما اتفق الناس على تسميته بالدّيانات السّماوية أو الإبراهيميّة. كذلك توجد فلسفات وعقائد تدعو الى الاخلاق الجيّدة والعدالة واحترام حقوق الإنسان، مع أن بعض هذه الفلسفات تنكر وجود خالق للكون مثل الوجوديّة والماركسيّة الليلينيّة. ولكن الأخلاق الجيّدة والاعمال الصّالحة والقيام بالواجبات الدينية لا يمكن ان تقود الإنسان الى الخلاص والحياة الابديّة. كذلك فإن ديانات وفلسفات العالم تفتقد إلى حضور الله الحي كما هو الحال في المسيحيّة، حيث يعيش الرّب يسوع المسيح وسط كنيسته وفي حياة كل من يؤمن به.
إن إنجيل مجد الله هو نهاية الدّين. لذلك علينا كمسيحيّين أن لا نستخدم عبارة "دين مسيحي" نهائيّاً، وذلك لأنّنا هنا نستخدم كلمتين تناقضان بعضهما البعض. ففي الكتاب المقدّس لا نتعلّم عن أي أمر إيجابي يتعلّق بالدّين. كذلك فإننا لا نجد في بحثنا في الدّين أية صلة بين المسيحيّة الحقّة وما يسمّى "دين". فالكنيسة المسيحيّة لا تعمل في مجال الدّين وليست لها رسالة دينيّة، لأن رسالتها هي رسالة محبة الله التي تجسّدت بموت الرّب يسوع المسيح على الصليب وقيامته المجيدة من الموت.
المسيحيّة ليست دين، ولن تصبح دين أبداً وذلك لان الرّب يسوع المسيح، الذي هو رب وسيد ومخلّص وفادي الكنيسة، أي جماعة المؤمنين به، هو حي في كنيسته ويرعاها ويحميها من كل أشكال الدين. والإنسان المسيحي لا يؤمن بدين يتكون من عقائد وطقوس، بل يؤمن بالرب يسوع المسيح الحي، ويعيش بحسب تعاليمه السّامية التي أعلنها لنا الله في الكتاب المقدّس.
ما هي المسيحيّة: المسيحية هي طريق الحياة التي يريدها الله للجنس البشري. وكلمة "الحياة" في هذا التعريف تشير الى الحياة المقدّسة، أي المنفصلة عن الخطيّة، في هذا العالم، وإلى الحياة الأبدية في السّماء مع الله الواحد الآب والإبن والرّوح القدس. هذا التعريف السّهل والواضح نستنتجه بكل بساطة من خلال دراسة إعلان الله الكامل في الكتاب المقدّس. فنحن كمسيحيين نؤمن أن الله حي وموجود منذ الأزل وإلى الابد. وأن وجود الله قائم بذاته، وناطق وخالق بكلمته، وحيّ بروحه. فقبل وجود هذا الكون الشّاسع بكل ما فيه من مجرات ونجوم وكواكب، كان الله موجوداً في وحدانيّته الجامعة. أي ان وجود الله لا يحتاج لأي شيء آخر ولا يعتمد على أي شيء آخر. وفي لحظة معينة اختارها الله بإرادته الكاملة والصّالحة، بادر الى القيام بعملية الخلق، وأوجد بقدرته وسلطانه كل ما في الكون. وآخر شيء خلقه الله كان الإنسان الذي جعله على صورته ومثاله كما نقرأ في تكوين 27:1: "فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ". ووضع الله الإنسان الّذي خلقه في جنة عدن على الأرض ليعيش فيها بفرح وسلام وانسجام تام مع بقيّة الخليقة، وكذلك لتكون له علاقة شخصيّة حميمة مع الله. أسلوب الحياة هذا الذي اختاره الله للإنسان كان تجسيداً لإرادة الله الذي يحب الإنسان الذي خلقه، والذي يريد الله من الإنسان ان يعيشه باختياره الحر. أي أن الله أعطى الإنسان منذ البدأ الحريّة لكي يقبل طريق الله في الحياة أو يرفضها، وبالتالي يتحمل الإنسان مسئولية قراره الحر.
بعد مضي زمن لا نعرف مدّته، اختار الإنسان في لحظة ضعف، وبإغواء من الشّيطان، أن يعصي الله. وهذا العصيان أو التعدي على إرادة الله، أدّى الى دخول الخطيّة والموت كعنصر جديد في حياة النّاس. نقرأ في رومية 12:5: "بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ". بعد السقوط في الخطيّة، ابتدع النّاس ديانات وعقائد وفلسفات متنوعة لفهم الحياة، ومحاولة إرضاء الخالق، والعودة الى الجنّة المفقودة.
لم يترك الله الإنسان في حالة ضياع وبحث دائم، بل تدخل في حياة النّاس وتعامل مع افراد بعينهم، مثل نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف، لأنه راى فيهم طهارة القلب وصدق البحث عن طريق الحق. وبعد أن أعطى الله البشريّة زمناّ كافياً، عمل على إعلان إرادته وشريعته ووصاياه عن طريق نبيّه العظيم موسى. وقد ساعدت الشّريعة النّاس على التّمييز بين الخير والشّر، وبين العمل الصّالح والعمل الرديء. وتقرّب النّاس الى الله عن طريق تقديم ذبائح حيوانيّة للتكفير عن خطاياهم. ولكن هذه الذّبائح الحيوانيّة كانت رمزيّة ومؤقّته وتشير إلى ذبيحة عظمى وحيدة كفيلة أن تكفّر عن خطايا العالم كلّه مرّة واحدة وإلى الأبد. هذه الذّبيحة كان لا بد لها أن تكون كاملة وبلا خطيّة، والأهم أنه كان لا بدّ لها أن تكون إنسانيّة، فلا يكفر عن خطايا الإنسان الّا إنسان مثله، ولا يفدي الإنسان الّا إنسان مثله. ولكن لو كانت هذه الذّبيحة مجرّد إنسان عادي، أي مثل أي إنسان آخر، فإنه لا يمكن له أن يفدي إلا إنساناً واحداً فقط، وليس كل البشريّة التي عاشت في الماضي، وتعيش الآن، وستعيش مستقبلاً. وبما أنه لا يوجد إنسان مخلوق يستطيع ان يفدي البشريّة، لأن كل إنسان مخلوق هو بذاته خاطىء ويحتاج الى من يفديه ويخلّصه، كان لا بد وأن يكون الفادي إنساناً غير مخلوق وكامل وعظيم بحيث تكون ذبيحته كافية للتكفير عن خطايا كل إنسان من آدم الى آخر إنسان سيخلق في الوجود.
وهكذا، وفي ملء الزّمان، جاء الله الى العالم في صورة إنسان، وولد من القدّيسة مريم العذراء بدون زرع بشر، وذلك حتّى لا يرث الطبيعة البشريّة الفاسدة وبالتالي يكون بلا خطيّة. ودعي اسمه يسوع، أي الله المخلّص، وعاش حياة إنسان كامل بين النّاس، وكمّل شريعة الله، وأعطى البشريّة أروع وأعظم واقدس تعاليم عرفها النّاس، ثم توّج حياته بالموت طوعاً على الصّليب حتى يعطي لكل من يؤمن به الفداء والخلاص والحياة الأبديّة. ثم قام في اليوم الثّالث وهزم الموت، وأعطانا بقيامته رجاء حيّاً بالقيامة من الموت والحياة الابدية مع الله في السماء.
هذا التلخيص المكثّف جدا لتاريخ معاملات الله مع الجنس البشري هو خلاصة ما نسمّيه المسيحيّة. أي أن المسيحيّة هي الحياة بحسب مشيئة الله وبقوة الله وفي طريق الله. فالإنسان المسيحي الحقيقي هو الإنسان المولود مرة ثانية، أي ولادة روحيّة تتم لحظة توبة الإنسان عن خطاياه، والطّلب من الله أن يطهره بدم الرّب يسوع المسيح الذي سفك على الصّليب من أجلنا. عندها يختبر الإنسان خلاص الله ويصبح إنساناً جديداً، ويعيش حياته بحسب إرادة الله الصالحة والمرضيّة والكاملة.
الفرق بين المسيحيّة الحقيقيّة وما يسمّى "بالدّيانة المسيحيّة:
يؤدي عدم التفريق بين المسيحيّة الحقّة وديانات العالم إلى اعتبار المسيحيّة مثل غيرها من الديانات. وخصوصاً عند القيام بدراسة مقارنة بين تلك الديانات. ويعتمد دارسو الأديان على اعتبارات اجتماعيّة ونفسيّة وعقائديّة وطقسيّة وتنظيميّة عند القيام بالمقارنة بين الديانات، وهذه الاعتبارات لا تصلح ولا تكفي لفهم الإيمان والحياة المسيحيّة.
أما المسيحيّة الحقيقيّة فتتطلّب حضور وعمل الرّب يسوع الحي، لأن المسيحيّة هي شخص الرب يسوع المسيح وحياته ووجوده وسط شعبه، أي الكنيسة. علي هنا أن أوضّح بأن الكنيسة ليست البناء الحجري بل هي مجموعة الافراد الّذين يؤمنون بالّرب يسوع المسيح. الكنيسة هي البشر وليست الحجر، والرّب يسوع المسيح ليس مؤسّساً لما يسمى "الدّين المسيحي"، ولكنّه الأساس الرّوحي الحي والفعّال في الوجود البشري. كذلك فإنّ الرّب يسوع هو مصدر الحياة والخلاص والوجود لكل من يقبله من النّاس في العالم. وعليه فإنّنا لو نزعنا شخص الرّب يسوع من المسيحيّة الحقيقيّة، فإنّنا عندها نحصل على شيء مختلف اسمه "دين مسيحي" بكل أنظمته وقادته وطقوسه وأعياده وميزانيّته وقدّيسيه وشفاعاتهم، ولكن بدون الرّب يسوع الحي. وهكذا فعبارة "دين مسيحي" هو اسم خاطئ للمسيحيّة.
إن ما يسمّى اليوم "بالدّين المسيحي" هو اختراع بشري بامتياز، ولا يعبر عن إرادة الله الواضحة والمعلنة بقوة في الكتاب المقدّس. الدّين المسيحي كما هو شائع بين الناس، هو مجموعة التفاسير والطّقوس والممارسات الّتي تشكّلت بناءً على المفاهيم والتّفاسير المختلفة لتعاليم الكتاب المقّس، والّتي أقرّها أشخاص مختلفين عاشوا في عصور وأماكن مختلفة.
ما يسمّى "بالدّين المسيحي" هو خروج صريح عن المسيحيّة الحقّة. ومع الأسف الشّديد، تستطيع بواسطة ما يسمى "الدين المسيحي" أن تلغي شخص المسيح، ولكن يبقى لديك العقائد والبرامج والطقوس والمنظمة الكنسيّة بهرم القيادة الّتي تحكم الكنيسة. واليوم يقول بعض رجال اللاهوت بأنّه سواء كان يسوع المسيح شخصيّة تاريخيّة حقيقيّة أم لم يكن، فإنّ الدّين المسيحي باقٍ ليساعد النّاس أخلاقيّاً ونفسيّاً. وهذا قمة الخداع والضلال والضّياع، لأنه بدون شخص الرّب يسوع لا يوجد فداء أو خلاص أو حياة مقدّسة في العالم أو حياة أبديّة في السّماء.
بحسب ما يطلق عليه "الدّيانة المسيحيّة" الرسمية الموجودة الآن، فحتّى لو مات الله فستبقى الدّيانة، لأنّ محورها ليس شخص الرّب يسوع المسيح الحي والمقام من بين الاموات. فالكنيسة بخدماتها وطقوسها وممتلكاتها وقادتها ورسومها سوف تستمر، لأنّ المطلوب فقط هو الإنسان والمال والعمارات والمؤسسات، ولا حاجة لله.
في الواقع إن ما يسمّى "بالدّين المسيحي" أي مفاهيم وأعمال النّاس المبنيّة على تفاسيرهم الخاصّة لتعاليم الرّب يسوع المسيح، يختلف كلّياً عن المسيحيّة الحقّة الّتي مركزها شخص الرّب يسوع المسيح، وليس مجرد تعاليمه. فالرّب يسوع لم يقل احفظوا تعاليمي فقط، بل قال له المجد: "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ" (يوحنا 25:11) و "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يوحنا 6:14). و "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ". (يوحنا 12:8).وكنيسة الرّب يسوع المسيح قائمة وحيّة وموجودة منذ اكثر من ألفي عام، رغم كل الإضطهاد والقتل والظلم الذي تعرض له المسيحيين، والذي ازداد شراسة في الأيام الاخيرة، لأن الرب يسوع وعد كنيسته قائلا بأنه هو الذي يبني كنيسته، ولأنه ما يزال حتى اليوم يشجع المؤمنين به قائلاً لهم: "إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ". (يوحنا 19:14). فحقيقة شخص الرّب يسوع هو ما يعكس حقّ الله، وحضور الرّب يسوع الحي والمقام من بين الأموات، هو حياة الله القدوس في كنيسته وما يعطيه للعالم.
عندما آمنت بالرب يسوع المسيح له المجد، تعرضّت لأشكال مختلفة من الإتهامات والشّتائم والتجريح والطّعن. ولكن أكثر تهمة تعرّضت لها كان قول النّاس لي: "أنت غيّرت دينك". وكان جوابي وما يزال حتى اليوم: "أنا لم أغيّر أي دين، وأنا أصلا كنت لا أومن بأي دين. أنا كنت اعيش بالخطيّة، ولكنني تبت عنها وآمنت بيسوع المسيح واتّخذته مخلّصاً ورباً لحياتي".
*المسيحية هي حياة قائمة بذاتها، بل هي عين الحياة المشبعة والكاملة بالنسبة للإنسان المسيحي الذي اختبر الخلاص والولادة من فوق والتجديد بالإنجيل.
*المسيحيّة مميزة وفريدة لأنّها تبين عمل ونشاط الله الخالق لاستعادة الجنس البشري من حالة السّقوط والفساد والخطيّة إلى حالة البراءة والطهارة والقداسة، وذلك من خلال شخص الرّب يسوع المسيح وما عمله على الصّليب من أجل البشريّة..
*المسيحيّة تعني قبول شخص الرّب يسوع في حياة وسلوك الإنسان.
*المسيحية تعني حياة الرب يسوع في الإنسان، تماماً كما كتب بولس الرّسول بوحي من الله: "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي". (غلاطية 20:2).
*المسيحية تعني حياة القداسة التّامة والإبتعاد عن كل أشكال الخطيّة والشّر والنجاسة، تماماً كما تقول كلمة الله: "اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ". (عبرانيين 14:12).
*المسيحيّة ليست دعوة لاعتناق فلسفة أو ممارسة طقوس محددة.
* كذلك فالمسيحيّة ليست المحافظة على برنامج ثابت.
"الدّين" وتفسير الكتاب المقدّس:
إنّ العهد الجديد الّذي قطعه الرّب يسوع مع الكنيسة يستأصل من الجذور جميع أشكال التديّن الّتي وجدت منذ سقوط الإنسان. فعندما نتأمل في العهد الّذي قطعه الرّب يسوع مع الجنس البشري، أي عندما ندرس كتاب العهد الجديد، فإنّنا نحصل على براهين قاطعة على الاختلاف الجذري والجوهري بين حياة الرّب يسوع وملكوته السماوي المؤسس على النّعمة من جهة، وبين ما يسمى "بالدين المسيحي" وديانات العالم من جهة أخرى.
إذا قمنا بدراسة العهد الجديد بشكل منهجي، مبتدئين بالإنجيل المقدس بحسب البشير متى، أي بدراسة سيرة وخدمة وتعاليم الرّب يسوع له المجد، فإنّنا سنجد بشكل واضح وساطع وقاطع أن الرّب يسوع كان يعارض ويكشف ويناقض كل أشكال الدّين والتديّن في دعوته إلى ملكوت النّعمة الّذي جاء لإعلانه.
كان الكتبة والفرّيسيّون يمثلون الجماعة المتديّنة الّتي اتخذت موقفاً عدائياً لكل ما عمله وقاله الرّب يسوع. فلم يكن لديهم الفهم الرّوحي لاستيعاب ما كان يدعو له الرّب يسوع. ولو نظرنا إلى تعاليم الرّب يسوع، سنجد أن ثلث تعاليمه تقريباً كان عن طريق استخدام الأمثلة، وهذه الأمثلة ساعدت على إرباك القيادات الدينيّة الّذين نادراً ما أدركوا أنّ الرّب يسوع كان يقارن قناعاتهم وممارساتهم الدينيّة مع سلطان وحكم وملكوت الله الرّوحي الّذي جاء هو لتحقيقه. ولكن في النّهاية أدرك القادة الدينيّين أن الأمثلة تكشفهم على حقيقتهم، ولذلك تآمروا على إسكات الرب يسوع بالصّليب. ولكن الرّب يسوع غلب الموت وقام منتصرا في اليوم الثّالث، وبقيامته أعطى الرب يسوع للمؤمنين به رجاءً حياً بالقيامة من الموت والحياة الأبديّة معه في السّماء.
في سفر أعمال الرّسل، أي في بداية تاريخ الكنيسة، أدرك قادة الكنيسة الأولى بالتّدريج وجود فرق شاسع بين الإنجيل وكل ديانات العالم، وكيف كان عليهم أن يميِّزوا بين المسيحيّة وديانات العالم، وخصوصاً الدّين اليهودي. وقد ساعدت أحداث مميزة وخاصة، مثل حلم بطرس في يافا، وقبول كرنيليوس لشخص الرّب يسوع ودخوله المسيحيّة، ومعاداة القيادة الدينيّة اليهوديّة للكنيسة المسيحيّة في أوروشليم وسائر فلسطين، وغيرها من الأحداث. ساعدت هذه الأحداث على تعميق الهوّة وإبراز الفرق بين المسيحيّة كحياة مع الرب يسوع المسيح، وكل أشكال وأنواع الدّين والتديّن.
عندما ابتدأ رسل وتلاميذ الرب يسوع المسيح في نشر تعاليم الإنجيل ومبادئ ملكوت الله بين الأمم، نجد أنهم بشّروا النّاس قائلين لهم أن الرب يسوع المسيح هو "رئيس الحياة" (اعمال الرسل 15:3) ولم يقولوا بأنه مؤسس دين. ونقرأ في أعمال الرسل 19:5-20 أن الرب أرسل ملاكه ليخرج الرسل من السجن الذي وضعهم فيه رجال الدين اليهود، وقال لهم الملاك "اذْهَبُوا قِفُوا وَكَلِّمُوا الشَّعْبَ فِي الْهَيْكَلِ بِجَمِيعِ كَلاَمِ هَذِهِ الْحَيَاةِ". أي أن الله أمر كنيسته بواسطة الملاك بالتبشير بكلام هذه "الحياة" وليس بتعاليم دين معين. نلاحظ هنا أن كلمة "حياة" جاءت معرَّفة، حيث قال "الحياة" فالمسيحية هي الحياة الحقيقية وليست أي حياة أخرى.
وعندما آمن عدد كبير من اليونان والرومان وغيرهم بالرب يسوع المسيح، نقرأ أن جموع المؤمنين "لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ سَكَتُوا وَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللهَ قَائِلِينَ: «إِذاً أَعْطَى اللهُ الْأُمَمَ أَيْضاً التَّوْبَةَ لِلْحَيَاةِ!" (أعمال الرسل 18:11). لقد تاب الناس وآمنوا بالحياة المسيحية، ولم يؤمنوا بدين أو شيء آخر.
نجد في رسائل بولس الرّسول تعاليم واضحة تبيّن الفرق بين المسيحيّة والدّين. فمثلاً في الرّسالة إلى أهل رومية، يفسّر بولس الرّسول حقيقة أن التّبرير لا يتم على أساس طقوس دينيّة، بل يتم بناءً على عمل الرّب يسوع على الصّليب. أي أن يسوع البار هو الّذي يبرّر كل من يؤمن به. وفي رسالة كورنثوس الأولى، يواجه بولس الرسول مظاهر التّدين الّتي بدأت تظهر في كنيسة كورنثوس، ويدعو الى نبذها والتوقف عن ممارستها. وفي رسالته الثّانية إلى الكنيسة في كورنثوس، يبيّن بولس الرّسول الفرق بين خدمة إنجيل نعمة الله، وسوء استخدام الطّرق الدينيّة.
يشدّد بولس الرسول في رسالة غلاطية على تناقض الإنجيل والدّين، وينكر وجود أي كتاب أو تعليم مقدّس غير الإنجيل. وبعكس العنصريّة والتعصّب الدّيني، يفسر بولس الرّسول في رسالة أفسس أن الجميع أصبحوا خليقة جديدة بنعمة الله، وأن المؤمن المسيحي هو إنسان جديد في شخص الرّب يسوع المسيح. وفي مواجهة الدّيانات الوثنيّة والتّشدد في آسيا الصّغرى (غرب تركيّا اليوم)، كتب بولس الرّسول في رسالته إلى كولوسي عن تفوّق وامتياز المسيح الّذي هو حياتنا. وباختصار، نجد في جميع رسائل بولس الرّسول كيف أنّ المسيحيّة تختلف بل وتعارض بقوّة أي دين.
في الرّسالة إلى العبرانيّين، يفسّر كاتب الرّسالة كيف أن حياة وتعاليم الرّب يسوع المسيح تلغي أي ميل للتديّن في فهم العهد القديم. فالرّب يسوع هو المكمّل والمفسّر للعهد القديم. وفي رسالة يعقوب نجد تعليماً مريحاً يوضح أنّ القيام بالطّقوس الدينيّة لا قيمة له، أما الإيمان المسيحي فهو العيش في نور حياة وتعاليم الرّب يسوع المسيح.
ونجد في آخر سفر في الكتاب المقدّس، أي في سفر رؤيا يوحنّا اللاهوتي، قمّة إعلانات الله في العهد الجديد. يعلن الرّب يسوع في الرؤيا التي كشفها للكنيسة بواسة الرّسول يوحنّا بأنّ الدّين سيحاول دائماً التّغلب على المسيحيّة وجعلها ديانة أرضية دنيويّة عالميّة، وذلك كما كان يعمل في الكنائس السّبعة في آسيا. وكيف أن جميع محاولات الشيطان الدّينية ستفشل. كذلك نعرف من وحي الله في سفر الرؤيا عن انتصار الرّب يسوع الحتمي على الدّين، وهذا الإنتصار قادم عن قريب. الرّب يسوع له المجد هزم إبليس وهزم الموت وقام منتصراً، وسيغلب جميع الهجمات والتعاليم الباطلة والبدع والعقائد الّتي تحاول القضاء على الفرق بين المسيحيّة والدّين.