مسح النبي صموئيل شاول بن قيس من سبط بنيامين ليكون أول ملك على شعب الله القديم، وكانت فترة حكم شاول مليئة بالقلاقل والاضطرابات والحروب المستمرة. ولكن ما زاد من أزمة الملك شاول هو كراهيته للنبي داود بن يسى ومطاردته له لسنوات عديدة على أمل قتله والخلاص منه. ولكن الله كان مع داود وأنقذه من يد الملك شاول.
بعد وفاة الملك شاول، طلب النبي داود في صلاته ارشاد الله وقيادته لحياته في الأيام القادمة. واستجاب الله لصلاة داود وطلب منه التوجه إلى مدينة حبرون (الخليل اليوم). حيث "أتى رجال يهوذا ومسحوا هناك داود ملكاً على بيت يهوذا (صموئيل الثاني 4:2).
لم يقبل ابنير بن نير رئيس جيش الملك الراحل شاول بالذي حصل، فتمرد على الملك داود، وقام بتعيين ايشبوشت بن شاول ملكاً على شعب الله القديم. وقد أدى ما أقدم عليه أبنير إلى اشتعال حرب أهلية بين اسباط شعب الله القديم، واستمرت المعارك مدة عامين بين بيت الملك شاول بقيادة رئيس الجيش أبنير، وبيت الملك داود بقيادة رئيس جيشه يوآب بن صرويّة.
وحدث في إحدى المعارك بين الطرفين، وبعد أن سقط عددٌ كبيرٌ من القتلى، أن أبنير نادى يوآب وسأله ثلاثة أسئلة نقرأها في سفر صموئيل الثّاني 26:2: "هل إلى الأبد يأكل السّيف؟ ألم تعلم أنها تكون مرارة في الأخير؟ فحتى متى لا تقول للشعب أن يرجعوا من وراء إخوتهم؟". استجاب يوآب بخبثٍ لطلب أبنير وتوقف السّيف عن القتل لفترة قصيرة جداً. ولكن يوآب كان طوال فترة الهدنة يتصيّد فرصةً مناسبة للقضاء على أبنير، وفعلاً تم له ما أراده، وقام بقتل أبنير غدراً (راجع صموئيل الثاني 27:3). أيّ أنه حتى في فترة الهدنة، كان يوآب يخطط لاستخدام السّيف، وكانت استجابته المبدئية لأبنير مجرّد خدعة وقتية بانتظار الفرصة المناسبة للانتقام والقتل.
حصلت هذه القصة في السنة الألف قبل الميلاد، أي منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة. وحتى اليوم، ما يزال العقلاء والمؤمنون وخائفو الله ودعاة السّلام يسألون: "هل إلى الأبد يأكل السّيف". أجل، إلى متى سيستمر الناس في قتل بعضهم البعض؟ ومتى تتوقف الحروف وسفك الدّماء؟!
كان أبنير ابن عم الملك شاول ، ونعرف ذلك مما جاء في صموئيل الأول 5:14 "... واسم رئيس جيشه ابينير بن نير عم شاول"، واسمه يعني "أبو النور". بعد موت شاول، أخذ أبنير على عاتقه مسح ايشبوشت بن شاول ملكاً على اسرائيل بدافع الوفاء لابن عمه الملك الراحل شاول، ظاناً أنه بهذا العمل سيخدم شعب الله. ولكن إرادة الله كانت أن يصبح داود ملكاً على الشّعب وليس غيره. وفي خضم الحرب الأهلية بين أسباط شعب الله القديم، نجد أبنير ينطق بأسئلة تدل على حكمة رجل اختبر الحياة، فقد كان يومها متقدماً بالسن.
السؤال الأول: هل إلى الأبد يأكل السّيف؟ نجد في السؤال تشبيهاً رهيباً للسيف وكأنه وحش مفترس يأكل الناس على مر العصور دون أن يشبع. وللأسف الشّديد فإن السّيف والحروب ما تزال تقتل أعداداً لا حصر لها من النّاس، وتدمّر مصادر لا تحصى من الحياة. فالحروب شر وجريمة ضد الإنسانية .
أخذ السيف اليوم شكل سفن حربيّة وغواصاتٍ نوويّة، وطائرات حربيّة فائقة السّرعة والتقنيّة، ودبابات ومجنزرات وصواريخ عابرة للقارات، وقنابل ذكيّة وعنقوديّة ونوويّة وذريّة وهيدروجينيّة لا تُبقي أثراً للحياة.
أمام هذا الجنون وصراخ الموت، علينا أن نضع سؤال أبنير في وجه دعاة الحروب والموت: "هل إلى الأبد يأكل السّيف"؟ ألا يكفي سفك دماء وحروب؟ أما حان لنا أن نطيع رب المجد يسوع الذي علمنا في عظته الخالدة "طوبى لصانعي السّلام لأنهم أبناء الله يدعون" (متى 9:5). ألا نتأمل في قوله للرسول بطرس "رد سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون السّيف بالسيف يهلكون (متى 52:26). وما أصدق كلمات رب المجد يسوع، وما أحوج البشريّة لسماعها. فكل الذيت حملوا السّيف انتهت حياتهم بالسّيف، لأن الذي يزرعه الإنسان إيّاه يحصد أيضاً" (غلاطية 7:6).
السؤال الثاني: ألم تعلم أنها تكون مرارة في الأخير؟ الحروب والقتل والعداوة تولد مرارة في القلوب. والمرارة تشير إلى حقد مترسخ ودفين يدمر النّفس البشريّة. نقرأ في إرميا 19:2 "... فَاعْلَمِي وَانْظُرِي أَنَّ تَرْكَكِ الرَّبَّ إِلهَكِ شَرٌّ وَمُرٌّ"، فالمرارة مرتبطة بالشّر، وعالمنا اليوم مليء بشرور ناتجة عن أحقاد وكراهية أعمت بصيرة أصحابها. وهكذا فإن دائرة الشّر مغلقة: فالحرب والقتل تقود إلى المرارة، والمرارة والأحقاد والعداوات تقود بدورها إلى الحرب، وبذلك لا يتوقف السّيف عن أكل حياة النّاس.
ويشهد تاريخنا المعاصر بقوة على صدق كلمة الله، ونحن اليوم نشهد بروز الأحقاد الدّفينة الناتجة عن المرارة المعشّشة بين جماعات دينيّة في شرقنا الجريح. وها هو السيف كالوحش المفترس يأكل الناس بنهمٍ شديد.
السؤال الثالث: حتى متى لا تقول للشعب أن يرجعوا من وراء إخوتهم؟ جاء طرح أبنير لهذا السؤال على يوآب للتذكير بأن المعركة كانت بين أخوة، فكلا الطرفين كانا من شعب الله القديم. وهنا نجد تذكيراً لنا كبشر بأننا جميعاً أبناء وبنات آدم وحواء، فكل النّاس اخوة في البشرية والإنسانية. ويوجد أيضاً من هم أخوة في الإيمان والعقيدة والمبدأ والدّين والأيديولوجية والوطنية والقومية والعرق والانتماء، ومع ذلك يتحاربون ويقتلون بعضهم البعض.
طرح قائد جيش سؤاله على قائد جيش آخر: "حتى متى لا تقول للشعب أن يرجعوا من وراء إخوتهم"؟ أي أنه دعاه إلى وقف الحرب والقتال بين الأخوة. دعاه أن يطلب من جنوده التوقف عن محاربة وقتل إخوتهم. دعاه إلى إسقاط السّيف وحمل غصن الزيتون. وما أحوج عالمنا اليوم إلى قادة حكماء يخاطبون خصومهم بلغة السّلام، حتى تتوقف الحروب ولا يقتل النّاس بعضهم البعض.
كانت الحرب الأهلية الأولى بين أسباط شعب الله القديم بدافع شهوة المُلك والسّيطرة، وما يقود ذلك إلى مجدٍ أرضي ومكاسب ماليّة وماديّة من أراضٍ وخيرات وممتلكات.
ولم تتغيّر أسباب الحروب حتى يومنا في القرن الحادي والعشرين. وستبقى كلمة الله تصدع بالحقيقة وتكشف أعماق النّفس البشريّة، حيث نقرأ في رسالة يعقوب 1:4 تلخيصاً بليغاً ومكثفاً وعميقاً بأن سبب الحروب هو "لذّاتكم المحاربة في أعضائكم". أربع كلمات فقط، ولكنها تضع النّقاط على الحروف: سبب الحروب هي اللذة في السّيطرة والحكم والتملّك والسّلطة والمال. هذه الشّهوة تشعل ناراً في قلب وعقل وكيان ووجدان أصحابها، وتدفعهم إلى الحروب لتحقيق طموحهم وشهواتهم دون أي اعتبار للنفوس التي تُقتل، والنّساء التي ترمّل، والأطفال الذين يصبحون أيتاماً أو حتّى يقتلون.
يعمل السّياسيون والصّحفيون والمؤرخون على استنباط وتعداد جملة من الأسباب السّياسية والإقتصاديّة والإستراتيجيّة والعسكريّة وحتّى الدينية لتفسير أسباب الحروب والقتل والدّمار في العالم اليوم. وهذه الاسباب في جملتها تتفق مع إعلان الله في الإنجيل المقدّس. لأننا لو حلّلنا الأسباب المتنوعة التي يتحدّث عنها خبراء ودعاة وقادة الحروب، سنجد أنها تعبيراً وتجسيداً صارخاً عمّا يشتعل في داخل النّفس البشريّة من رغبة جامحة ومجنونة في المال والثروة والسلطة والجنس والمجد الأرضي.
يعلمنا ربنا يسوع في الأنجيل المقدّس أن لا نطلب شهوة العالم.
يعلمنا أن نكون مكتفين بما عندنا.
يعلمنا أن نصلي من أجل سلامة جميع النّاس وخلاص كلّ النّاس.
عندما اقتلع نبوخذ نصر شعب الله القديم من أرض وطنه وأخذهم أسرى إلى السّبي والغربة، كتب ارميا النبي إليهم رسالته المعروفة في اصحاح 29 من سفره قائلاً لهم في الآية السابعة: " اطلبوا سلام المدينة التي سبيتكم اليها وصلوا لاجلها إلى الرب، لانه بسلامها يكون لكم سلام".
طلب ارميا من شعب الله أن يصلوا لسلام مدينة الأعداء الذين دمروا وطنهم وعاصمتهم وهيكلهم، والذين نهبوا خيرات بلادهم وأخذهم أسرى وعبيد. والحكمة من هذه الصّلاة هي أن سلام مدينة الأعداء يقود الى سلام من يعيشون بها. وشعب الله كان من الناس الذين يعيشون بها.
والكنيسة اليوم مشتتة في العالم. ويعيش المؤمنون بالرب يسوع في أوطان وبلدان كثيرة لا يعرف قادتها وحكامها الله الحقيقي، ولا يعرفون محبته التي تجسدت بموته على الصّليب من أجل خطاياهم. لذلك على الكنيسة أن تصلي من أجل سلام هذه الدّول وهذه الشعوب، على أن يكون هذا السّلام شاملاً للناحيتين الرّوحية والماديّة. السلام الروحي مع الله والذي يناله الإنسان بالتّوبة عن الخطايا وقبول المسيح رباً ومخلّصاً لحياته. والسّلام المادي، أي انتهاء حالة الحرب والعداء والقتل بين الناس.
نعيش اليوم في عالم مهدد بمخاطر حروب مدمّرة، ونخاف أن يستمر السّيف كالوحش يأكل النّاس بلا توقّف. لذلك لنتذكر دعوة الرب لنا ككنيسة بأن نكون دعاة محبة بين النّاس. دعاة سلام حقيقي. دعاة توبة وتوقف عن حياة القتل والشر والعداء.
دعونا نقول للعالم ما قاله الرب يسوع للرسول بطرس في يوحنا 11:18 "اجعل سيفك في الغمد"، وبدلاً منه خذ "سيف الروح الذي هو كلمة الله" (أفسس 17:6) لتواجه أجناد الشر الروحية التي تعمل على دمار البشرية.