في القسم الأخير من ج16 إشارتان مرتبطتان ببعضهما ارتباطًا وثيقًا. فيهما تلخيص مشروع الخلاص الإلهي بمَثَل الكَرّامين، أو الفلّاحين، الذي ضَرَبَهُ السيد المسيح لرُؤسَاء الكَهَنة وشيوخ الشَّعب:
الإشارتان الرابعة والخامسة
المَثَل:- {، ورَجَموا الآخَر. فأرسَلَ صاحِبُ الكرم خَدَمًا غَيرَهُم أكثرَ عددًا مِنَ الأوَّلين، ففَعَلوا بِهِم ما فَعلوهُ بالأوّلين. وفي آخِر الأمر أرسلَ إلَيهِم اَبنَهُ وقال: سيَهابونَ اَبني. فلمَّا رأى الكرَّامون الاَبنَ قالوا في ما بَينَهُم: ها هو الوارث! تعالَوا نَقتُلُهُ ونأخُذُ ميراثَه! فأمسكوهُ ورمَوهُ في خارِج الكرم وقتلوه. فماذا يفعَلُ صاحِبُ الكرم بهؤلاء الكرَّامينَ عِندَ رُجوعِهِ؟ قالوا لَه: يَقتُلُ هؤُلاءِ الأشرارَ قَتلاً ويُسلِّمُ الكرمَ إلى كرّامينَ آخرينَ يُعطونَهُ الثَّمرَ في حينِه}+ متّى 21: 33-41
فالإشارة الرابعة إلى أشعياء 5: 1-7 وإلى إرميا 2: 21
ثمّ قال الرّبّ يسوع تاليًا: {أمَا قرأتُم في الكُتُب المُقَدَّسة: الحجَرُ الّذي رَفضَهُ البنّاؤونَ صارَ رأسَ الزّاوية؟ هذا ما صنَعَهُ الرَّبّ، فيا للْعجَب! لذلِكَ أقولُ لكُم: سيأخُذُ اللهُ مَلَكوتَهُ مِنكُم ويُسلِّمُهُ إلى شَعب يَجعلُهُ يُثمِر}+ عن الترجمة المشتركة.
فالإشارة الخامسة إلى المزمور 118: 22-23
وقد اقتطفت مقالتين، باختصار، من التفسير المسيحي:
الأولى: [لخّص السيِّد تاريخ الخلاص كلّه في هذا المثل، فيه أوضح محبّة الله المترفّقة، إذ غرس كرمًا وأحاطه بسياج، وحفر فيه معصرة، وبنى برجًا، وسلّمه إلى كرّامين، وسافر. لقد ائتمنهم على الكرم بعد أن قدّم لهم إمكانيّات العمل كلها، لكن إذ أرسل عبيده يطلب ثمرًا، جلَد الكرّامون بعضهم، وقتلوا بعضًا، ورجموا بعضًا. وتكرّر الأمر في دفعة أخرى، وأخيرًا {أرسل إليهم ابنه... الآية} فالسيِّد كشف لهم أنهم عبر التاريخ كلّه لم يكونوا فقط غير عاملين، إنما اضطهدوا رجالَ الله في أعنف صورة، حتى متى جاء ابن الله نفسه الوارث يُخرجونه خارج أورشليم ليقتلوه!
لقد أصدر الحكم عليهم من أفواههم، إذ سألهم: {فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل... الآية} وختم السيِّد على الحكم بقوله: "أمَا قرأتم قطّ... الآية} هكذا بلغ بهم السيِّد إلى النتيجة، ألا وهي الحاجة إلى هَدْم البناء القديم ليقوم ملكوت الله على أساس جديد.
ما الحجر المرفوض؟ قيل إنّ عند بناء هيكل سليمان وَجد البنّاؤون حَجَرًا ضخمًا، فظنّوا أنه لا يصلح لشيء فاحتقروه، ولكن إذِ احتاجوا إلى حجر رأس الزاوية لم يجدوا حجرًا يصلح مثل الحجر الذي احتقَروا. كان رمزًا للسَّيِّد المسيح إذ احتقره رجال الدين اليهودي، ولم يعلموا أنّ الحجر الذي يربط بين الحائطين في الهيكل الجديد، يضم فيه مَن هُمْ مِن اليهود ومَن هُمْ مِن الأمم، ليصير الكلّ أعضاء الملكوت الجديد...]- بقلم القمّص تادرس يعقوب.
وتعليقي تاليًا: لقد أخطأ مَن ظنّ أنّ المسيح جاء إلى اليهود فقط، بناء على جوابه على تلاميذه في قصّة المرأة الكنعانيّة: {لَمْ أُرْسَلْ إلاَّ إلى خِرَافِ بيت إِسرَائِيلَ الضَّالَّة}+ متّى 15: 24 إنّما انطلق إلى الأمم من بيت إسرائيل. فاليهود خاصّته التي ذكرها يوحنّا في بداية إنجيله {إلى خاصّته جاء وخاصته لم تقبله. وأمّا كلّ الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه} ومعلوم أنّ المسيح يهودي لأنّه مولود من مريم العذراء ومنسوب إلى يوسف النجّار خطيبها البارّ. وتلاميذه الإثنا عشر من اليهود. أمّا الأمم فهي العامّة التي قصدها المسيح بانطلاقه إلى نواحي صور وصيدا (متّى 15: 21) ولم تكن النواحي يهوديّة، كذا المدن العشر (متّى 4: 25 وكلّ من مرقس 5: 20 و7: 31) وغيرها. وقصدها تلاميذه في أرجاء الأرض (أعمال الرسل 1: 8) بالإضافة إلى تعيين الرسل السبعين (لوقا 10: 1) وهو القائل: {ولي خِرَافٌ أُخَرُ ليستْ مِنْ هذِهِ الحَظِيرَة، ينبغي أَنْ آتِيَ بتِلكَ أيضًا فتَسْمَعُ صوتي، وتَكُونُ رَعِيَّةٌ واحِدة ورَاعٍ واحِد}+ يوحنّا 10: 16
وهو القائل: {فاذهَبُوا وتَلمِذوا جَمِيعَ الأُمَمِ وعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب والابن والرُّوحِ القُدُس}+ متّى 28: 19 والأدلّة كثيرة لمن قرأ الإنجيل بنفسه وقرأ نبوّات العهد القديم.
ـــ ـــ ـــ
الأمّيّ والأمميّ
سُمِّيت "الأمم" تمييزًا لها عن اليهود- الشعب الوحيد الذي يعبد الله- وتمييزًا عن المسيحيّين واليهود بعد المسيح. لأنها ببساطة أُمَمٌ غير يهودية ولا مسيحية، أممٌ لم تعرفِ الله أو لم تؤمن بالله. فالأُمّيّ هنا نسبة إلى الأمّة، وليس غير المتعلِّم ولا الذي يجهل القراءة والكتابة والحساب. والأمميّ نسبة إلى الأمم. لهذا السبب؛ لا يوجد نبيّ أُمّيّ في الكتاب المقدَّس! لأنّ جميع الأنبياء بعد إبراهيم وموسى كانوا من اليهود. وللسبب نفسه؛ قد نظرتُ إلى زعم القرآن: (الذين يَتَّبِعُون الرّسول النبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل...)- الأعراف: 157 باستغراب وتعجّب؛ فمَن المقصودُ بالرسول المزعوم، في أيّ سِفر من أسفار التوراة الخمسة مكتوب عنه، في أيّ سِفر من أسفار الإنجيل مذكور، في أيّ أصحاح، ما اٌسمُهُ، ما نَسَبُه، ما عِرقُه؟
عِلمًا أنّي عثرت على التالي في تفسير البغوي: [قيل هو منسوب إلى أمّته، أصله أمّتي فسقطت التاء في النسبة كما سقطت في المكّي والمدني. وقيل: هو منسوب إلى أمّ القرى وهي مكة] انتهى. والقصد: الأمّيّ هو المنسوب إلى أمّته، كالمواطن المَكّيّ المنسوب إلى مكّة، بدون التاء، وكالمدنيّ المنسوب إلى المدينة.
ففي نظري؛ أنّ في الأعراف 157 افتراءً واضحًا من مؤلِّف القرآن على التوراة وعلى الإنجيل، بل يتعارض مع مشروعَ الله إرسالُهُ رسولًا مِن غير اليهود إليهم! كيف أرسل الله إلى شعبه رسولًا لم يعرف الله أو لم يؤمن بالله؟! هذا زعمٌ مرفوض منطقيًّا، بل من الأدلّة الثبوتيّة لذوي الأباب وذواتها على أنّ القرآن غير موحًى به من الله- إله الكتاب المقدَّس.
والثانية: [في هذا المَثَل؛ أوضح الرب يسوع لهُمْ مُعاملات الله معهم منذ وضعهم كأُمّة مُختارة في أرض كنعان إلى تكميل إثمهم بقتل ابنه. والصورة التي رسمها طابقت الحال. ولا يُخفى أنّ أصل هذا المَثل موجود في إشعياء 5: 1-7 على أن الرب يُكمله ويُخصّصه لحالتهم وقتئذ. فقد أنعم الله عليهم ببركات وامتيازات لم يكن مثلها لشعب آخر؛ انظر-ي قوله {ماذا يُصْنَعُ أَيضًا لِكَرْمِي، وأنا لم أصنعه له؟} ثم أرسل عبيده (الأنبياء) طالبًا ثمرًا يليق بنسبتهم الفريدة له وتعبه فيهم. لكنهم أظهروا البُغض لصاحب الكرم بما عملوا بعبيده. لنلاحظ الصبر الإلهي المدلول عليه بإرسال عبيد آخرين مرة بعد أخرى، ثم عند حضور الابن (يسوع المسيح) لم يقصروا عن تقديم الأثمار فقط بل صمَّموا على قتله لكي يكون لهم الميراث (المزمور 2) وبذلك أكملوا إثمهم ففقدوا امتيازاتهم القديمة التي لم يعرفوا قيمتها.
ثمّ عاد الرب فبَرهن لهم من كُتبهم ولا سيّما المزمور 118: 22-23 إذ {قالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ في الكُتُب: الحَجَرُ الَّذِي رَفضَهُ البَنَّاؤُونَ... الآية} فهذا القول {من قِبل الرب كان هذا... الآية} لم يتمّ حينئذ لأن بني إسرائيل كانوا مُصابين بالعمى. كانت لهم عيون ولم يُبصروا بها، لكن الله سيَنزع البُرقُعَ عن قلوبهم فيما بعد (2كورنثوس 3: 16) وينظرون مجد الحجر المرفوض (2كورنثوس 3: 18؛ زكريا 4: 7) ويعترفون بهذا الاعتراف.
وتاليًا: {لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأُمّة تعمل أثماره]- والقصد هنا بملكوت الله عَمَلُ نعمةِ الله الفعّالُ الذي ينتج ثَمَرًا: {فجَاهر بولس وبرنابا وقالا كان يجب أن تُكلَّموا أنتم أوَّلًا بكلمة الله ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مُستحقين للحياة الأبدية هُوَذا نتوجّه إلى الأُمم}+ أعمال الرسل 13: 46 فإنّ الله كفّ الآن عن العمل بينهم بعد الصبر الكافي وجعل يعمل بين الأُمم...]- بقلم الأخ بنيامين بنكرتن.
وتعليقي بالمناسبة؛ لقد احتجت شخصيًّا إلى قراءة تفاسير خدّام الرّبّ الأتقياء، لأنّي غالبًا ما أشتاق إلى معرفة تأمّلات الذين سبقوني إلى قراءة الكتاب المقدَّس ولا سيّما تأمّلات آباء الكنيسة الأوائل. عِلمًا أنّ الكتاب المقدَّس هو الملفّ الشخصي لله لكلّ مَن أراد-ت أن يعرف عن طبيعة الله وعن صفات الله. وقد ظَهَرَتْ، من بعد ظهور الكتاب المقدَّس وانتشاره، كُتُبٌ منحولة وأساطير وهرطقات وأقاويل هابطة منسوبة إلى الله زورًا وبهتانًا، تمّ الرّدّ على كثير منها لدحضها وتفنيدها. فكيف انتقد الكتابَ المقدَّسَ شخصٌ لم يقرأه بنفسه ولم يطّلع على تفسير آية اعترض عليها لأنّ معتقده خالَفَها أو أنّ معتقده على طرفي نقيض منها؟ مثالًا: قضيّة صَلب المسيح الموثّقة نبويًّا وإنجيليًّا وتأريخيّا. إنّما مَن يسأل الله بقلب نقيّ وضمير حيّ يرشده الله إلى معرفة الحقّ، أيًّا كان عِرقُ السائل-ة وجنسُه وثقافته ومعتقده: {ها أنا واقِفٌ على البابِ أدُقّه، فإنْ سَمِعَ أحدٌ صوتي وفَتَحَ البابَ دَخَلتُ إلَيهِ وتَعَشَّيتُ مَعَهُ وتَعَشَّى هُوَ مَعِي}+ رؤيا 3: 20
وبالمناسبة؛ قال الشاعر عَبيد بن الأبرص في معلَّقته، وهو من قبيلة مسيحيّة:
مَن يَسأَلِ الناسَ يَحرِمُوهُ - وسائِلُ اللَهِ لا يَخيبُ