أوصى الله الإنسان في كتابه الوحيد- الكتاب المقدَّس- بألّا يسجد لأيّ إله غيره؛ ذلك ابتداء بالتوراة وتحديدًا سفر الخروج- الأصحاح 20- مؤكّدًا على وصيّته في سفر التثنية- الأصحاح 5- لأنّه {إله غيور} وإليك النّصّ بصراحة الله ووضوح قصده: {أنا الرَّبُّ إِلهُكَ... لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخرى أَمَامِي... لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُور} ومعلوم في الكتاب المقدَّس أنّ الله عاقب شعبه عقابًا شديدًا بعدما زنى وراء آلهة أخرى (1) معتبرًا الزنى خيانة:
{فقالَ الرّبُّ لِموسى: قُمِ اَنْزِلْ. فسَدَ شعبُكَ الذينَ أخرَجتُهُم مِنْ أرضِ مِصْرَ. حادوا سريعًا عَنِ الطَّريقِ الذي أمَرتُهُم بِسُلوكِه، فصنَعوا لهُم عِجلا مَسبوكًا وسجدوا لَه وقَدَّموا الذَّبائِحَ وقالوا: هذِهِ آلِهتُكُم يا بَني إِسرائيل...}+ الخروج 32: 7-8
{ولقُضاتهم أيضًا لم يسمعوا، بل زنوا وراء آلهة اخرى وسجدوا لها. حادوا سريعًا عن الطريق التي سار بها آباؤهم لسمع وصايا الرب، لم يفعلوا هكذا}+ القضاة 2: 17
{وكان بعد موت جدعون أنّ بني اسرائيل رجعوا وزنوا وراء البَعليم، وجعلوا لهم بَعَلَ بَرِيثَ إلها}+ القضاة 8: 33
{فيُجابُ: لأنَّهُم تركوا الرّبَّ إلهَهُمُ الذي أخرَج آباءَهُم مِنْ أرضِ مِصْرَ وتمَسَّكوا بِآلِهةٍ غريبةٍ وسجدوا لها وعبَدوها، لِذلِكَ أنزَلَ بِهِمِ الرّبُّ كُلَ هذا البَلاء}+ الملوك الأوّل 9:9
{وأنا أفعَلُ ذلِكَ لأنَّ سُليمانَ تَركني وسجدَ لِعَشتَروتَ إلهَةِ الصَّيدونيِّينَ ولِكموشَ إلهِ الموآبيِّينَ، ولِمَلكومَ إلهِ بَني عَمُّونَ، ولم يَسلُكْ في طُرُقي ولا تَمَسَّكَ بِفَرائِضي وأحكامي وبِما هوَ قويمٌ في نظَري مِثلَ داوُدَ أبيه}+ الملوك الأوّل 11: 33
{وخانوا إله آبائهم وزنوا وراء آلهة شعوب الارض الذين طردهم الرب من أمامهم}+ أخبار الأيام الأول 5: 25
أمّا إذا اعترض-ت قارئ-ة على كلمة "الوحيد" في السطر الأوَّل، فقد كتبت في ما مضى مقالتين؛ الأولى تحت عنوان: كم كتابًا لله؟ والثانية تحت عنوان: كتاب الله الوحيد-
في الرابط أدنى (2) ردًّا على زعم بوجود "كتب سماوية" منسوبة إلى الله. إنّما الله بريء ممّا نُسِبَ إليه زورًا وزَيفا.
وإذا اعترض-ت على الوارد في الإنجيل بسجود بعض الناس للسيد المسيح فإنّ السيد المسيح أوّلًا لم ينتهر الساجد-ة أمامه، وفي السياق نفسه؛ لم يطلب إلى أحد السجود له ولم يأمر. ثانيًا: معلوم أن السيد المسيح هو الله الظاهر في الجسد. فكل من يسجد للمسيح الظاهر فإنه يسجد لله غير الظاهر، لا فرق لاهوتيًّا بين السيد المسيح وبين الله ولا جوهريًّا، لأنّ معنى ابن الله: كلمة الله، الذي من الله، الآتي من الله، المنبثق من الله، المنسوب إلى الله.
وإذا اعترض-ت على سجود مسيحيّين أمام الصليب فإنّما قصدوا المصلوب عليه من أجْلهم، ليس سجودًا للخشبة المسمّاة صليبًا ولا للصورة التي عليها ولا للتمثال. فالصليب رمز فداء السيد المسيح البشرية كلّها وفخر المسيحيّين والمسيحيّات كلّ زمان وفي أيّ مكان.
ـــ ـــ ـــ
السجود لغير الله في الكتاب المقدَّس
ورد في العهد القديم النّصّ التالي في قصّة يوسف: {ثُمَّ حَلُمَ أَيْضًا حُلْمًا آخَرَ وَقَصَّهُ عَلَى إِخوَتِه، فقال: إِنِّي قَدْ حَلُمْتُ حُلْمًا أَيْضًا، وإِذا الشَّمْسُ والْقَمَرُ وأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا سَاجِدَةٌ لي}+ التكوين 37: 9 وواضح أنّ هذا السجود حصل في حلم، ليس بأمر من الله! بل انتهره والده على هذا الحلم قائلًا- في الآية التالية: {مَا هذا الْحُلْمُ الَّذِي حَلُمْتَ؟ هَلْ نأتي أنا وأُمُّكَ وإخوَتُكَ لِنَسجُدَ لَكَ إلى الأرض؟}+
والجدير ذكره بالمناسبة؛ قيام مؤلِّف القرآن بنقل {وإِذا الشَّمْسُ والْقَمَرُ وأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا سَاجِدَةٌ لي} جاعلًا منها ممّا أوحِيَ به إليه (إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمسَ والقمَرَ رأيتهم لي ساجدين)-يوسف4 مسبّقًا بالقول: (إنّا أنزلناه قرآنا عربيّا لعلّكم تعقلون. نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن...) وقطعًا أن اليهود علموا أنه كان ينقل آيات عن التوراة ومقولات عن كتبهم التفسيرية فيصوغها بأسلوبه باللغة العربية. فكيف يؤمنون بأنّ ما جاء به موحًى به من الله وهو في نظرهم سرقة مفضوحة؟ وقد سُمِّيت في أدب الحداثة "سرقة أدبية" لأنّ السارق حاول إخفاء المصدر الذي نقل عنه.
لا شكّ في أنّ مؤلِّف القرآن كان لا يرحم أحدًا مشكّكًا في رسالته فكيف يرحم أحدًا واثقًا من سرقته والدليل موجود لدى الشخص المسروق من كتابه ومحفوظ ومعروف؟ هذه في رأيي واحدة من أهمّ أسباب محاولة مؤلِّف القرآن طمس آثار هذا الفعل- السرقة- بإبادة رجال اليهود في النهاية إبادة جماعية مع سبي نسائهم والأطفال، تحت ذريعة أنهم نقضوا العهد.
وفي الحقيقة؛ لم يكن هناك عهد بينه وبينهم، إنّما خلاصة الموضوع- حسب بحث المفكّر حامد الصمد (3) أنهم رفضوا دعمه في الخصومة التي كانت بينه وبين "كفّار قريش" لأنّهم كانوا مسالمين وأذكياء ما يكفي لمعرفة عاقبة الوقوف مع طرف ضدّ خصمه بعد عودة الصلح بينهما يومًا ما واحتمالية اتّحادهما للانقلاب عليهم وهم أهل الكتاب وأصحاب الأرض بما فيها من منازل ومزارع.
وإني على يقين بأنّ بعض السّذّج سيعلّقون على هذه المقالة اليوم أو غدًا، بتدوير اسطوانة المقولات التالية: (الشهادتين، إن الدين عند الله الإسلام، كتابكم محرَّف بشهادات علماء يهود ونصارى وشهادات قُسُس تنصّروا) مبتعدين عن موضوع المقالة. فإذْ سُئِلوا: هاتوا اسم عالم واحد يهودي منهم أو مسيحي، بدون كذب وتزوير! فلا جواب. وإذْ سُئِلوا: هاتوا اسم قسّ واحد منهم أسلم، بدون كذب وتزوير! فلا جواب. وهذا ما ورد في هامش التعليق على وقفة المقالة السابقة وغيرها، على فيسبوك لينغا، فنقلت من هناك ما تقدّم والتالي. فهؤلاء الإخوة في نظري مِن فئة القائلين (عنزة ولو طارت) ومن صنف الببغاوات.
والآن؛ قد يقف الأخ المسلم والأخت المسلمة ما بين نارين، نار تصديق التوراة التي سبقت القرآن بأزيد من ألفي سنة، لأن كاتبها (موسى النبي) قد عاش قبل ميلاد السيد المسيح بحوالي 1400 سنة، وبين نار القرآن التي يستخدمها السّلفيّون لحرق المرتدّين عن الإسلام، كما فعل أبو بكر وعلي، ما لم يضربوا فوق الأعناق ويضربوا منهم كلّ بنان (الأنفال12) وما لم يُصَلِّبوهم أو يُقطِّعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوهم من الأرض- المائدة33
وبالمناسبة؛ قرأت في الهامش المذكور تعليقًا لافتًا لأحد الإخوة المسيحيّين ممّن لم يقرأوا شيئًا في القرآن؛ مُسَمِّيًا إحدى سور القرآن "سورة النكاح" وهو يقصد السورة التي ورد فيها (فانكحوا ما طاب لكم من النساء...) فانتفض اثنان من الإخوة المسلمين، أحدهما بعد مضي ربع الساعة على التعليق، سائِلَين المعلِّق عن تسلسل "سورة النكاح" في المصحف. فلماذا يؤاخَذ اليهودي على انتفاضته في وجه مؤلِّف القرآن بعد نقله آية من التوراة، بل آيات، جاعلًا إيّاها من الوحي وأنّ الله هو الذي قصّ عليه أحسن القصص؟
وهل يستحق اليهود ما فعل المؤلف بهم في ما بعد مِن تهجير ومِن ذبح 600-900 رجل وصبيّ شعر عانته ظاهر، من بني قريظة، سواء بيديه أو بأيدي علي والزبير بن العوّام؟ وذريعة "نقض العهد" خالية من أيّة مصداقية ومن أيّ إثبات. فإذا سلّمنا بأنّ اثنين من وجهاء اليهود نقضا عهدًا ما كان بينهما وبينه فما محلّ زعمه (ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى- الأنعام 164) من الإعراب، أم أنه كان يقول شيئًا ويفعل نقيضه حسب المزاج؟ قلتُ في نفسي: حاشا الله أن يرسل إلى العرب رجلًا بهذه الطبيعة العنيفة وبهذه الأخلاق، في وقت لم تحلّ على العرب أزمة رجال، مِن المشهود لهم بصفات حميدة، مثالًا: حاتم الطائي، ولا أزمة نساء. عِلمًا أنّ المؤلف المذكور اصطفى لنفسه صفيّة بنت حييّ المتزوّجة حديثًا، بعدما أمر بذبح قبيلتها يوم خيبر المشؤوم ولا سيّما زوجها وأبيها وأخيها، جاعلًا عِتقها صَداقها. والمراجع الإسلامية كثيرة، ما لا ينفع الكذب وتزوير الحقائق والضحك على الذقون في ويكيبيديا وفي المواقع الالكترونية الإسلامية المضلِّلة.
وفي قصّة يوسف أيضًا: {وكان يوسف هو المُسَلَّطَ على الأرض، وهو البائع لكل شعب الأرض. فأتى إخوة يوسف وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض}+ التكوين 42: 6 وواضح من سياق الآية أن هذا السجود دالّ على الاحترام أو المهابة أو التذلل لسبب الفقر والمجاعة حينذاك، لكنّ الله لم يأمر إخوة يوسف بالسجود ليوسف! هذه نقطة يجب التركيز عليها لأنّ السجود مألوف بين الأمم كافّة، سجود يعبّر عن احترام أو تقدير، وليس سجود عبادة.
وقد تكرر سجود إخوة يوسف له؛ انظر-ي التكوين\43
كذا ورد في العهد الجديد: {سأجعَلُ الّذين هُم مِنْ مَجمَعِ الشَّيطان، الّذين يَزعمونَ أنَّهُم يَهودٌ فيَكذِبونَ، سأجعَلُهُم يَجيئونَ ويَسجُدونَ عِندَ قَدَمَيْكَ ويَعرِفونَ أنِّي أحْبَبتُك}+ الرؤيا 3: 9 وفي تفسير هذه الآية إشارة واردة في العهد القديم: {وبَنو الذينَ اَضطَهَدوكِ يُقبِلونَ علَيكِ خاضِعينَ، وجميعُ الذينَ أهانوكِ يسجدونَ لأسفَلِ قدَمَيكِ ويدعونَكِ مدينةَ الرّبِّ، صِهيَونَ قُدُّوسِ إِسرائيلَ!} أشعياء 60: 14 والسجود في هذه الرؤيا وتلك قطعًا ليس سجود عبادة، لمن يقرأ ما سبق من آيات وما لحق جيّدًا، مستعينًا بالتفسير المسيحي! فالمعنى، بتلخيص تفاسير عدد من خدّام الرب: [انّ الله في آخر الزمان سيذلّ أعداء المسيح وكنيسته؛ ساجدين أمام الأبرار والأمناء وسائر أحبّاء الله، ونادمين على أخطائهم التي اقترفوها مع سبق الإصرار] انتهى.
وفي تقديري أنّ الله في يوم الدينونة (يوم الحساب) سيوقف جميع مَن ارتكبوا جرائم في حقّ الإنسانية منكّسي الرؤوس ومسحوقين تحت أقدام الضحايا، ومنهم الشهداء، ما قبل إلقائهم في بُحَيرَةِ النَّار الأبدية الْمُتَّقِدَةِ بالكِبرِيت مع إبليس وأتباعه والوحش والنبي الكذّاب- حسب الرؤيا 19: 20 والرؤيا 20: 10- فإلى قير وبئس المصير، لا شفاعة لمجرم منهم يومئذٍ ولا شفيع! وفي الكتاب المقدَّس على هذا السياق: {قالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيك}+ بداية المزمور 110 التي استشهد بها السيد المسيح له المجد أمام اليهود في لوقا 20: 43
وكما رأينا في حلم يوسف؛ لا وجود لأمر من الله بالسجود لغيره؛ لا في المزمور 110 ولا في آية أشعياء ولا في سياق سِفر الرؤيا. وخلاصة ما تقدَّم أنّ في الكتاب المقدَّس كُلِّه، من ألفه إلى يائه، لم يأمر الله أحدًا بالسجود للبشر ولا الحجر ولا الشجر.