نقرأ في الأصحاح الثاني والعشرين من إنجيل ربّنا يسوع المسيح بتدوين متّى البشير:-
2 مَثَل عُرس ابن الملك 16 إعطاء ما لقيصر لقيصر 23 قيامة الموتى 35 جوهر الشريعة: محبّة الله ومحبّة القريب 41 كون المسيح ابن داود وربّه.
وفيه أربع إشارت إلى العهد القديم:
الإشارة الأولى
{في ذلك اليوم جاء اليه صَدُّوقِيُّون، الذين يقولون ليس قيامة، فسألوه قائلين: يا معلِّم، قال موسى: إن مات أحد وليس له أولاد، يتزوَّجْ أخوه باٌمرأته ويُقِمْ نسلا لأخيه. فكان عندنا سبعة إخوة، وتزوّج الأول ومات. وإذْ لم يكن له نسل ترك امرأته لأخيه. وكذلك الثاني والثالث الى السبعة. وآخر الكل ماتت المرأة أيضا. ففي القيامة لِمَن مِن السبعة تكون زوجة؟ فإنّها كانت للجميع! فأجاب يسوع وقال لهم: تضِلّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوّة الله. لأنهم في القيامة لا يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُون، بل يكونون كملائكة الله في السماء. وأمّا من جهة قيامة الأموات، أفما قرأتُم ما قيل لكم مِن قِبَل الله القائل: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب؟ ليس الله إله أموات بل إله أحياء} والإشارة إلى قول الرّبّ لموسى النبي: {أَنا إِلهُ أَبِيكَ، إِلهُ إِبرَاهِيمَ وإِلهُ إِسحَاقَ وإِلهُ يَعقُوبَ. فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خافَ أَنْ يَنظُرَ إِلى الله}+ سِفر الخروج 3: 6
وقد لفتتني في هذه الرواية ثلاث مسائل؛ الأولى: وضوح معنى الرواية، إذ يستطيع القارئ-ة فهمها أيًّا كانت خلفيّته الثقافية وأيًّا كان مستواه التعليمي، لا غموض فيها ولا التباس في المعنى ولا اختلاف بين مفسِّر وآخر على المعنى ولا حاجة إلى قاموس لغوي.
والثانية: سرعة بديهة المسيح في الإجابة على كلّ سؤال بدون تردّد، فما قال لسائل يومًا "انتظر قليلا، سآتيك بالجواب قريبا" ولم يقُل "الله أعلم" ما دلّ على أنّ المسيح نبيّ أمين وصادق، إذ لم يبكّته خصومه على خطيئة واحدة. وعلى هذا النبي يجب قياس ادّعاء كلّ من ادّعى بنبوّة، بل بات سهلًا كشف الغطاء عن كلّ نبيّ كذّاب ومُضِلّ؛ ليس صعبًا دحض ادّعائه، بقليل من التفكير والبحث وتقصّي الحقيقة، لفضحه إمّا في السِّرِّ أو في العلن. هذا الكشف هو ممّا تعلَّم بنو إسرائيل من التوراة (انظر-ي التثنية\ الأصحاح 18) وممّا تعلَّم شعب العهد الجديد من الإنجيل (انظر-ي متى 24: 11 مثالًا لا حصرًا) لأنّ ظهور أنبياء كَذَبة كان متوقَّعًا كلّ حين، ما لم يغفل عنه الله- حاشا- لذا حَذَّر الله منهم بآيات واضحة.
أمّا الثالثة فقد تجلّت في جواب السيد المسيح المُقْنِع والمُفحِم، بهذه السرعة فوق العاديّة، معرفتُه التّامّة بالعهد القديم، ما دلّ على أنّه حقًّا كلمة الله- ربّ العهد القديم غير الظاهر، الذي كلَّم الأنبياء، إلى أن ظهر بالجسد. فالحقيقة هي أنّ ربَّ العهد الجديد الظاهر في الجسد وربّ العهد القديم غير الظاهر واحدٌ في الجوهر. هذه الوحدانيّة ليست شِركًا بالله، كما يظنّ الجهلة بالكتاب المقدَّس والمفترون على آياته! إنّمّا الشِّرك بالله على خلافها تماما. وسوف نرى شعار التوحيد من مصدره الأصلي في القسم الثاني من هذه المقالة.
نقرأ في التفسير المسيحي- بقلم القمّص تادرس يعقوب- بتصرّف: إذ كان السيِّد المسيح يتحدّث عن الملكوت السماوي كملكوت أبدي، تقدّم إليه الصدّوقيّون الذين سيطر عليهم الفكر المادّيّ، خصوصًا في تفسير الكتاب المقدّس بطريقة حَرفيّة، فلم يستطيعوا قبول عودة الجسد بعد انحلاله لذلك أنكروا القيامة، فصُدِموا بكلمات السيِّد المسيح في هذا الشأن.
يقول العلّامة أوريجينوس: [يرجع خطأ الصدّوقيّين إلى عدم فهمهم عبارات الأنبياء، فإذ قرأوا: {لا يتعبون باطلًا ولا يلدون للرعب، لأنهم نسل مباركي الرب وذرّيتّهم معهم}+ إشعياء 65: 23 وفي فصل البركة: {ويبارك ثمرة بطنك}+ التثنية 28: 4 اعتقدوا أن هذا يتحقّق عند القيامة دون أن يفهموا أنه يتنبأ عن البركة الروحيّة. فبولس- الإناء المختار (أعمال الرسل 9: 15) أدرك تمامًا أن البركة المُشار إليها في الناموس لا تعني الجانب الجسداني، إنّما فسَّرها بطريقة روحيّة؛ فكتب: {مبارَكٌ الله أبو ربّنا يسوع المسيح الذي بارَكَنا بكلّ بركة روحيّة في السَّماويّات في المسيح}+ أَفَسُس 1: 3 وسقط الصدّوقيّون في الخطأ نفسه حينما قرأوا في المزامير بطريقة حَرفيّة: {امرأتك مثل كَرْمَةٍ مُثْمِرَةٍ في جوانب بيتك، بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك. هكذا يُبارَك الرجُلُ المتَّقي الرَّبَّ}+ المزمور 128: 3-4 بينما الذين فهموا العبارة عن أورشليم الروحيّة أدركوا معنى قول الرسول: {وأمّا أورشليم العليا، التي هي أمُّنا جميعًا، فهي حُرّة}+ غلاطية 4: 26 ورأوا أنّ فيها تتحقّق هذه الخيرات الواردة في المزمور]
أضاف القمّص: قدّموا للسيِّد المسيح هذه القصة ظنًّا منهم أنها لُغز لا يمكن حلُّه، لكن السيِّد المسيح، كعادته، استخدم حتى المقاومة كفرصة لتقديم المفاهيم الإيمانيّة السليمة. فقد انتهز السيِّد هذه الفرصة ليحدّثنا عن مفهوم الحياة الملكوتيّة العتيدة، مؤكِّدًا أنها لا تقوم على مفاهيم أرضيّة، ولا يرتبط فيها الأعضاء برباطات جسديّة. فلقد أجاب السيِّد سؤالهم من جانبين: من الجانب المنطقي؛ فإنّ الحياة الأبديّة هي حياة فائقة على مستوى ملائكي. ومن الجانب الكتابي: أن الله إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، إنّما هو إله أحياء لا إله أموات.
في الحياة الأبديّة نمارس حياة ملائكيَّة فلا يوجد زواج. هنا يسترعي القدّيس يوحنّا الذهبي الفم انتباهنا أنْ [ليس لأنهم لا يتزوَّجون فهُمْ ملائكة، وإنما لأنهم ملائكة فهم لا يتزوَّجون] لذلك فإن غايتنا، حتى بالنسبة للرُّهبان، أن ننعم بالحياة الملائكيّة، لا عدم الزواج في ذاته.
يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [إنَّ الصدّوقيّين اقتربوا بِشرِّهم إلى السيِّد المسيح مخلّص الكل، الذي هو الحياة والقيامة (يوحنّا 11: 25) وسَعَوا لإنكار القيامة حتى يُفقِدوا العالمَ كلّه الرجاء! وكان يمكن للسيِّد المسيح أن يؤكّد لهم القيامة من كتابات الأنبياء (انظر-ي هوشع 13: 14 والمزمور 104: 29) لكنّه لم يدخل معهم في مناقشات كلاميّة، إنّما قَدَّم لهم تذوّقًا جديدًا للقيامة، مُلهبًا قلوب مؤمنيه نحوها للتمتّع بالحياة الملائكيّة الفائقة]
وأردف القمّص متسائلًا عن القرابة في السماء: هل في السماء نتجاهل القرابات الجسديّة؟
يجيب القديس أغسطينوس: [لا يوجد في ملكوت السماوات قرابات زمنيّة من هذا النوع: {لا فَرقَ الآنَ بَينَ يَهودِيٍّ وغيرِ يَهودِيّ، بَينَ عَبدٍ وحُرّ، بَينَ رَجُلٍ وامرأة، فأنتُم كُلُّكُم واحدٌ في المَسيحِ يَسوع}+ غلاطية 3: 28 {بل المسيح الكل في الكل}+ كولوسي 3: 11 فلو سألنا مسيحيًّا صالحًا له زوجة، وقد يكون لديه أبناء منها، عمَّا إذا كان يرغب في أن تكون له علاقة جسديّة بزوجته في ملكوت السماوات، فمع محبّته لزوجته في الحياة الحاضرة وارتباطه بها، سيجيب بلا تردّد رافضًا بشدة أن تكون علاقته بها في السماء علاقة جسديّة، لأنه يهتمّ بتلك الحياة التي فيها يلبس الفاسد عدم فساد، والمائت عدم موت. هل لي أن أسأله مرّة أخرى، عمَّا إذا كان يرغب في أن تكون زوجته معه بعد القيامة هناك، حتى يكون لها ذلك التغيّر الملائكي الذي وعد به الرب القدّيسين، فإنه سيجيب بالإيجاب بشدَّة، قدر ما رفض بشدة في الحالة الأولى. وهذا ينطبق أيضًا على الأبوَّة والأمومة وبقيّة العلاقات الجسديّة. فهناك لا نقول لأحد "أبي" بل جميعنا نقول لله "أبانا" ولا نقول لأحد "أمِّي" بل نقول جميعنا لأورشليم السماويّة "أُمَّنا" ولا نقول لأحد "أخي" بل يقول الواحد للآخر "أخانا" حقًا سيكون هناك زواج من جانبنا، إذ نتقدّم جميعًا مثل زوجة واحدة لذاك الذي خلَّصنا من نجاسة هذا العالم بسفك دمه]
ويجيب القديس جيروم قائلًا: [عندما يُقال: لا يزوّجون لا يتزوّجون يظهر أن التمايز الجنسي قد انتهى] وقال: [حقًا سيكونون ممجّدين وينعمون بالسموّ الملائكي، لكنهم مع هذا يبقون بشريّين، فيبقى الرسول بولس وهو بولس وتبقى مريم هي مريم] وقال مرّة أخرى في حديثه ضدّ أتباع جوفنيانوس: [إن كان الوعد لنا أن نكون كالملائكة، ولا يوجد بين الملائكة جنسان متمايزان، فإنّنا سنكون بلا تمايز جنسي كالملائكة. على أي الأحوال؛ أنّنا إذ نقوم من الأموات نحمل الجنس الذي لنا لكننا لا نمارس وظيفة الجنس]
ويقول القدّيس كيرلس الكبير في هذا الشأن: [إذ تُنزَع كل شهوة جسديّة ولا يكون فيهم موضع للملذّات الجسديّة. يشبهون الملائكة، مقدّمين خدمة روحيّة غير ماديّة، فيصيرون كأرواح مقدّسة، ويُحسَبون في الوقت نفسه مستحقِّين لمجد يتمتّع به الملائكة]
ثمّ عاد القمّص تادرس إلى القصة التي رواها الصدّوقيّون متأمِّلًا بالقول: إنها ربّما تمثل قصَّة الكنيسة كلَّها. فالمرأة التي تحدّثوا عنها هي بمثابة الكنيسة التي ارتبطت بعريسها الأبدي ليملأ قلبها، لكن من خلال واقعها الزمني الذي يُشار إليه بالرجال السبعة، على أن الزمن يُشار إليه بالرقم 7 (عدد أيام الأسبوع) فارتبطت بأعمال الناموس كرَجُل لها، فظنّ اليهود أنّهم أبرار، لكن يلزمهم أن يتقبّلوا العريس الأبدي إن ماتوا عن البِرّ الذاتي أو الأعمال البشريّة الزمنيّة الذاتيّة. هذه الكنيسة، إذ تقوم لعريسها الأبدي، تحمل الطبيعة الملائكيّة، فلا يقوى عليها الموت، ولا تحتاج إلى الزيجات الجسديّة بعد انقضاء الدهر.
وختم جناب القمّص بالتالي: نحن في العالم نحتاج إلى الزواج بسبب موت الجسد، لكننا إذ نصير كالملائكة لا تدخل إلينا الخطيّة ولا نسقط تحت الموت، فلا حاجة إلى زواجٍ لإنجاب أجيال تالية عِوض الجيل القائم.
ولا يختلف ما ذهب إليه القمّص تادرس يعقوب عمّا ذهب إليه سائر مفسِّري الإنجيل ولا سيّما المذكورين في حلقات سابقة (مثالًا: هنري أ. أيرونسايد) وسوف أقدِّم تفسيرًا بقلم آخر (وليم ماكدونالد) في القسم الثاني من هذه المقالة بعون الرب.