تعلّموا أيّها الدِّيداتيُّون أخلاق النقد؛ فإن المقولة القرآنيّة (وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين)- الأنبياء:107 التي تبدو للعامّة واضحة، مختَلَف على معناها، كما جرت العادة بين أهل التفسير الإسلامي وبين أهل التأويل. لذا لم أفسِّر من بنات أفكاري وإن كنت ضليعًا في اللغة وعارفًا أسلوب القرآن وغايته وداريًا بذرائع الناسخ والمنسوخ. إنما احترمت مشاعر المسلمين باحثًا عن التفسير المقبول عند المسلمين في عدد من الكتب الإسلامية ولا سيّما الطبري- صاحب أكبر كتابين في التفسير الإسلامي والتاريخ- لأنّه صادق في إيمانه، لم يأتِ بتفسير من عنده، كما ذكرت في القسم الأوّل، إنما من أقوال الصحابة والتابعين، ثمّ أعطى رأيه بأولى الأقوال بالصواب. والطبري في نظري أقرب أئمّة السّنّة إلى صدر الإسلام من غيره من المُخْلِصين للإسلام. ولا تختلف التفاسير الشيعية عن السنية في نظري إلّا قليلا.
لكنْ هلّا لاحظتُم أنّي قد بحثت عن تفاسير مسلمين مخلصين للإسلام! أمّا أنتم فقد ثبت أنّكم تبحثون عن شائعات ضدّ الكتاب المقدَّس، بثّها ملحدو أوربا ما قبل ديدات وغيره بقرون طويلة، ثمّ تقهقروا واحدًا تلو آخر، معترفين بهزائمهم أمام سموّ هذا الكتاب وأمام قدرة صاحبه على تغيير حياة الإنسان إيجابيّا وأمام قوّة دفاعه عن نفسه بنفسه. وقد حان دوركم لتعترفوا بهزائمكم أمام صخرته والوقت يمضي سريعًا والوقوف أمام الديّان العادل قريب في حسابه الزمني. وإلّا فثقوا بأنّ بيوتكم من زجاج مبنية على أسس رمليّة، فما تجرّأتم على قراءة تفاسير مسيحية معتمدة لدينا ومعترف بها وهي كثيرة، لأنكم تعلمون أن الواحد منها يقضّ مضاجعكم لسببين؛ الأوَّل: لاستحالة العثور فيه على خيط رفيع مؤدٍّ إلى ضالّتكم الوهمية، أي إيجاد مشروعية صغيرة ممّا فيه، بحجم نملة، لدعوة رسولكم التي تشبّثتم بها بطريقة (عنزة ولو طارت) بعدما ثبتت عالميّة رسالة السيد المسيح له المجد للقاصي كما ثبتت للداني، من الإنجيل، بأدلّة قاطعة وبراهين دامغة ممّا أشرت إليه في القسم الثاني من هذه المقالة. ومعنى هذا: لا داعِيَ لنبيّ من بعد المسيح، ليُرسِل الله إلى العرب ولا الهنود ولا الروس ولا الرومان ولا الأمازيغ ولا الصّرب ولا الألمان... إلخ.
والثاني: أنّ محور جميع التفاسير المسيحيّة واحد لأن جوهرها واحد وروحها واحد، كذا الترجمات المسيحية. لن تجدوا مترجمًا واحدًا منهم ليقول- مثالا- "بقرة بَنِي إِسرَائِيلَ صفراء" بعدما قال المترجم الأصلي إنّ بقرة بَنِي إِسرَائِيلَ التي أتوا بها إلى موسى النبي {حمراء صَحِيحَة لا عَيبَ فيها}+ العدد 19: 1 إلّا إذا كان الأوّل متحدِّثًا عن بقرة أخرى، لا تمتّ إلى التوراة بصِلة.
فمتى ذهبتم إلى التفسير المسيحي لفهم آية إنجيلية أو توراتية فعندئذ أرفع عنكم صفة الرذالة التي أطلقت عليكم في القسم الأوّل تأديبًا لكم لا شماتة بكم، لسوء تعاملكم مع آيات الكتاب المقدَّس عن عمد وسبق إصرار، فإنّي على يقين بأنّكم على ضلال يُرثى له وأنّكم تهرفون بما لا تعرفون. عِلمًا أنّ معركة المسيحيّين قائمة ضد قوى الشّرّ، ليست معركة ضد أشخاص، أيًّا كان عِرق الواحد منهم ومعتقده.
ـــ ـــ
تفسير الطبري الأنبياء:107
نقرأ في تفسير الطبري (وَمَا أَرسَلناكَ...إلخ) بتصرّف: [يقول تعالى ذكره لنبيه: وما أرسلناك يا محمد إلى خلقنا إلا رحمة لمن أرسلناك إليه من خلقي.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه، أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بها مؤمنهم وكافرهم؟ أم أريد بها أهل الإيمان خاصة دون أهل الكفر؟
فقال بعضهم: عُنِيَ بها جميع العالم المؤمن والكافر. عن ابن عباس: (تمّت الرحمة لمن آمن به في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن به عوفي مما أصاب الأمم قبل) وقال آخرون: بل أريد بها أهل الإيمان دون أهل الكفر. قال ابن زيد: (العالَمون: من آمن به وصدّقه، قال: وإِنْ أَدرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين- الأنبياء:111 قال: فهو لهؤلاء فتنة ولهؤلاء رحمة، وقد جاء الأمر مجملًا رحمة للعالمين، والعالمون ههنا: مَن آمن به وصدّقه وأطاعه) وأولى القولين في ذلك بالصواب (عند الطبري) القول الذي رُوي عن ابن عباس] انتهى.
وتعليقي أوّلا؛ يجد القارئ-ة هذين الاختلافين في تفسير القرطبي أيضا.
ثانيا؛ قلت في نفسي للمدعو ابن زيد: إنّ الرحمة الإلهية تعمّ جميع الناس لأنّ الله أعلن أنّه: {يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأشرَار والصَّالِحِين، وَيُمْطِرُ عَلَى الأبرَار والظَّالِمِين}+ متّى 5: 45
كما قال السيد المسيح: {وإِذا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يَفعَلُونَ هكَذا}+ لوقا 6: 33
ثالثًا: لم تُذكر في كلا التفسيرين أمثلة على هذه الرحمة ممّا في القرآن! فالناس في حاجة إلى أمثلة حيّة على الأرض للبرهنة على صدق الشعار المكتوب على لافتة أو المرفوع بالصوت. فكم صدعت الشعارات الجوفاء رؤوسنا! شأنها شأن الهتافات: (بالروح بالدم نفديك يا ...- فلان) لم يُذكَر تصرّف واحد رحيم، من جهة محمد، مع أحد خصومه ولو كان من أقاربه، مثالًا: ما في تفسير سورة المسد. ولا مع خصم، مثالًا: ما في تفسير سورة الكوثر. قلت: هل من أدلّة الرحمة- مثالًا لا حصرًا- أن يأمُر المُرسَل رحمة بقتل بعض خصومه ولو تعلَّقوا بأستار الكعبة وباغتيال بعضهم وبذبح بعضهم عن بكرة أبيهم؟ أين الرحمة؟ كان من المفترض أن يأتي المفسّران ببرهانين على رحمة مؤلِّف القرآن، بأقلّ تقدير، لأن القضاء عادة ما يأخُذ بشهادتين. وتاليًا: ألم يطالب محمد خصومه بأن يأتوا ببرهان إن كانوا صادقين؟- البقرة:111 وأخيرًا؛ إمّا افترضنا أنّ في قلبه رحمة فإنّ قوله التالي ينسف افتراضنا: (فاقتُلُوا المُشرِكِينَ حَيثُ وَجَدتّمُوهُمْ...)- التوبة:5 وفي البقرة:191 و193 [واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ... كذلك جزاء الكافرين... وقاتلوهم (يعني المشركين) حتى لا تكون فتنة (أي شِرك)...] فأيًّا كان سبب قوله هذا وذاك، أمَا كان جميع الناس في مكة، من عباد الله ومن المشركين ومن الكافرين، في سلام ووئام قبل ظهور محمد؟ لماذا تدخّل في شأن المشرك وفي شأن الكافر؟ بل تدخّل حتّى في شؤون أهل الكتاب إذ افترى عليهم وعلى كتبهم. والأدلّة كثيرة.
رابعا: حين يقول قارئ-ة الإنجيل أنّ السيد المسيح كان رحيمًا بالأمم فلا بدّ له من ضرب مثالين على رحمة المسيح أو ثلاثة، بأقلّ تقدير، بالإضافة إلى معجزات شفاء المرضى في مناسبات كثيرة وإطعام ألوف من الجياع في مناسبتين مدوّنتين في الإنجيل.
لعلّ ما تقدّم- في القسم الثاني من المقالة- من أشهر الأمثلة على رحمة المسيح؛ إذ شمل برحمته صبيّة مجنونة جدًّا لامرأة كنعانية من عبدة الأوثان فشفاها، كما شمل خادم قائد المئة الروماني بالشفاء.
من كان منكم بلا خطيئة...
إنّ المثال التالي الدّالّ على رحمة المسيح من أعظم الأمثلة، إذ غفر للزانية يوم أتى بها اليهود ليرجموها أمامه. فقال لهم آيته الشهيرة: {مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمِها أوّلًا بحجر}+ يوحنّا 8: 7 فلم يجرؤ أحد على رجمها لأنّ الجميع قد أخطأوا وأعوزهم فداؤه الذي تمّ بسفك دمه على الصليب... {فجَلَسَ يَسوعُ وقالَ لها: أينَ هُم، يا اَمرأة؟ أمَا حكَمَ علَيكِ أحدٌ مِنهُمْ؟ أجابتْ: لا، يا سيِّدي! فقال لها يَسوعُ: وأنا لا أحكُمُ علَيك. إذهَبي ولا تُخطِئي بَعدَ الآن}+ وقد عمل السَّيِّد المسيح، بهذا المثال ومثله كثير، بمقولته ممّا في موعظة الجبل الخالدة: {طوبى للرُّحَماء فإنَّهم يُرحَمون}+ متّى 5: 7 ومعنى طوبى: هنيئا.
فلا تناقض ما بين أفعال المسيح وبين أقواله- حاشا ملك الملوك وربّ الأرباب- فالسيد المسيح هو المُرسَل الحقيقي رحمة للعالم كلِّه، ليس غيره، ورحمته للعالم المنظور لا للشياطين. أمّا الملائكة فإنهم مع الله وكفى بها من نعمة.
والجدير ذكره، ممّا شاهدت على يوتيوب، اعتراف أحد سادة الشيعة الأفاضل بالقول ما معناه؛ [شتّان ما بين مَن شفى العميان، وبين مَن (عبس وتولّى أن جاءه الأعمى)- عبس:1 و2] وتاليًا؛ أظهر محمد للناس أن ربّه عاتبه لعدم رفقه بالأعمى- ابن أمّ مكتوم- وقد نوّه الرصافي في "الشخصية المحمدية" بما معناه: [حرص محمد على محاولات، مثل معاتبة ربّه، ليظهر للناس من خلالها وجود اتصال بينه وبين ربّه] فقلت في نفسي: ماذا استفاد الناس من قصّة محمد مع ذلك الأعمى؟
عِلمًا أنّ في تفسير المائدة:33 اختلافًا على قيام محمد بسمل عيون العرنيّين بالنار؛ مِنهم مَن قال ما معناه: (لم يسمل محمد أعين العرنيين ولكنه أراد أن يسمل فأنزل ربه عليه هذه يعرّفه الحكم فيهم ونهاه عن سمل أعينهم) ومنهم من قال: (أنزلت هذه عليه معاتبة في ذلك وعلّمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي ولم يسمل بعدهم غيرهم) والمزيد في تفسير الطبري وغيره.
ومعلوم في حديث محمدي أنّ محمّدًا قد أمر برجم الزانية والزاني. وهذا يعني أنه رجع إلى أحكام التوراة التي عفا عليها الزمن وانتهى العمل بها منذ القرن الأوّل الميلادي، ويعني أيضًا أنّ محمّدًا تجاهل رحمة السيد المسيح وغفرانه وتسامحه ممّا دُوِّن في الإنجيل. فالإنجيل بفضل نعمة المسيح ورحمته كتاب متطوّر عن التوراة وعن سائر أسفار الأنبياء. إذَنْ عاد محمد بالعالم إلى الخلف، أي إلى العهد القديم، ضاربًا تعاليم الإنجيل بعرض الحائط ومتجاهلا تطوّر فكر الإنسان وأخلاقه ومواهبه. عِلمًا أنّ مقولة الرجم مفقودة من القرآن. فهي ممّا نُسِخ لفظه وبَقِيَ حُكمُه. وهذا من أغرب ما في العالم، ما لا وجود له في دستور دولة احترمت وثيقة حقوق الإنسان؛ كيف يُشرَّع حُكمٌ بالموت على إنسان في ضوء مادّة قانونية مفقودة أو وهميّة؟ كما أنّ موضوع الزنا في الإسلام شائك وعقابه في القرآن بدون رأفة: (الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله...)- النور:2 بالإضافة إلى حكم الرجم المنسوخ حرفه. فأين النور وأين الرحمة؟ وهل من الرحمة تشريع إعاقات جسدية؟ فمثالًا: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)+ المائدة:38
قلت وربّما قال غيري أيضا: لو وُجِدت رحمة في قلب محمد لانعكس ظلّها على القرآن ولقرأ العالم في القرآن شيئًا عن الغفران ملموسًا ولقرأ فيه شيئًا عن التسامح مع الآخر.
لكنّ الباحث في الإسلاميّات قد يعثر في سيرة محمد على حالات من التسامح نادرة أو استثنائية، خدمت مصلحته سواء دينيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا؛ منها توسّل عثمان بمحمد للعفو عن عبدالله بن أبي السرح؛ قيل إنه أخو عثمان من الرّضاعة، وإنّه مِن كتبة الوحي؛ فقاطع يومًا محمّدًا، خلال تلاوة تفصيل الخلق، فقال عبدالله: (فتبارك الله أحسن الخالقين)- المؤمنون:14 فقال محمد: (هكذا أُنزِلتْ عليّ) فخالج قلبَ عبدالله شكٌّ في مسألة الوحي إلى محمّد فقال- حسب ويكيبيديا: (لئِن كان محمد صادقًا لقد أوحِيَ إليّ، ولئن كان كاذبًا لقد قلتُ كما قال. فارتدّ عن الإسلام...) فأنزل جبريل من فوق سبع سماوات المقولة التالية سواء في عبدالله وفي غيره: (ومَن أظلم ممّن افترى على الله كذبًا أو قال أوحِيَ إليّ ولم يُوحَ إليه شيءٌ ومَن قال سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله...)- الأنعام:93
وتعليقي: لم آتِ بسبب "النزول" من جيبي بل من كتب المفسِّرين. قلتُ: لقد أوحِيَ إلى عبدالله حقًّا والبرهان موثَّق! بدليل قوله هذه المقولة قبلما قالها محمد (فتبارك الله أحسن الخالقين) فكيف افترى عبدالله على الله كذبًا وكيف قال أوحِيَ إليّ بدون أن يُوحَى إليه شيء؟ فتأمّل أخي المسلم وأختي المسلمة في هذه المسألة مع التساؤل التالي: مَن منهما الذي افترى على الله كذبا؟ والمزيد في ويكيبيديا: عبد الله بن سعد بن أبي السرح.
ومنها التالي أيضًا؛ إذ أتى الشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى إلى محمد بقصيدة البُردة، الشهيرة في المدارس العربية وفي كتب التراث، العربي منه والإسلامي، والتي مطلعها:
بانتْ سعاد فقلبي اليوم متبولُ – متيّمٌ إثرَها لم يُفدَ مكبولُ
بعدما هجاه خلال بداية دعوته. فأهدر محمد دم كعب! فلم تجرؤ قبيلة على حماية كعب خوفًا من بطش محمد بها. فعاد المسكين مستأمنًا وأسلم معتذرًا، إذ قال ممّا في القصيدة- على وزن بحر البسيط:
أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوعَدَني – والعَفوُ عِندَ رَسُولِ الله مأمُولُ
وقد أَتَيتُ رَسُولَ الله مُعتذِرًا – والعُذرُ عِندَ رَسُول الله مَقبولُ
مَهلًا هَداكَ الذي أعطاكَ نافِلَةَ الـ قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وتفصيلُ
لا تأْخُذَنّي بأَقوال الوُشاة ولَمْ – أُذنِبْ وقد كَثُرَتْ فِيَّ الأقاويلُ
وكعب شاعر مخضرم ووالده زهير من أشراف العرب المؤمنين بالله قبل الإسلام، لأنّه من قبيلة نصرانيّة، شأنه شأن جميع أصحاب المعلّقات العشر، وحكيم شعراء زمانه ومن الثلاثة المقدَّمين عليهم، في قول التبريزي، بالإضافة إلى امرئ القيس والنابغة الذبياني. فقطعًا استحسن محمد قصيدة كعب، لأنّ فيها شهادة لمصلحته ومن شخصيّة فوق العاديّة.
فأخيرًا وليس آخِرا؛ أين الدليل على صحّة (وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين) بعد ثبوت خلافها بأدلّة وبراهين مِن بطون الكتب الإسلاميّة والقرآن أوّلها؟