أوّلًا: شكل السورة
توجد في سورة القلم لمحات شعرية، يستطيع هواة فنّ التقطيع الشعري رصدها، كالتي تقدّم ذكرها في (مطالعة سورة العلق) وهي:
بِأَييِّكُمُ الْمَفتُون 6 على وزن جزء من بحر الطويل.
هَمَّازٍ مَشّاء بنَمِيم 11 على وزن الخبب.
فأَصبَحَتْ كالصَّرِيم 20 على المُجْتثّ.
فتَنادَوا مُصْبِحِين 21 على جزء من الرَّمَل.
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُون 27 جزء من الرَّجَز أو السَّريع.
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون 36 مجزوء الخفيف.
وأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيدِي مَتِين 45 على المتقارب.
فالواضح أمامي، من مطالعة القرآن الآن كما في الماضي، أن مؤلِّفه على اطّلاع بقصائد تلك الفترة التي تلت ظهور المعلّقات وعمالقة الشعر، فاهتمّ بها وتأثّر وأنشد منها، لكنّ إحساسه بموسيقى الشعر لم يسعفه ليصبح شاعرًا، لهذا السبب عيّن الشاعر حسّان بن ثابت ليهجو بألفاظ قَذْعاء كلّ مَن هجاه. فلمّا قويت شوكته أرسل جنوده لاغتيال كلّ شاعر هجاه أو انتقده وكل شاعرة. لكن الشعر وحده لم يكن كافيًا لتلبية حاجته إلى ترجمة مكنونات عقله الباطن على الورق، لذا اكتفى بخواطره التي صنع منها قرآنًا، متأرجحة ما بين النظم الشِّعريّ وبين سجع الكهّان، معتنيًا بالفواصل بشكل لافت الانتباه مريب، حتّى على حساب المعنى وقواعد اللغة! والمزيد في "الشخصية المحمدية" للرصافي- باب "فواصل القرآن" ص830 أو 554 في نسخة الانترنت.
فالخواطر ذات الفواصل التي قابلت قوافي الشعر مع "صبغة إلهية" مضافة إن جاز التعبير، أخرجت قرآنًا على نسق الأسفار الشعرية في الكتاب المقدَّس ولا سيّما مزامير داود النبي، ممّا ثبت في مطالعة "القلم" ج2 لكنّ مؤلِّف القرآن لم يحسب جيّدًا حساب أهل الكتاب، من اليهود والمسيحيّين، إذ عرفوا الله جيّدًا وميّزوا اللون الإلهي جيّدًا، لم تخدعهم صبغة منسوبة إلى الله في كتاب ما، سواء أكان قرآن محمد أم قرآن مسيلمة أم غيره ممّا انتشر في ذلك الزمان من ثقافات متنوّعة ومن هرطقات. فشتّان ما بين اللون وبين الصبغة.
ـــ ـــ
(تَخَيَّرُون)- القلم:38 (تَدَارَكه)- القلم:49
وفي سورة القلم فعلان مضارعان استخدمهما مؤلِّف القرآن استخدامًا شِعريًّا، إذ خفّف كلًّا منهما؛ الأوّل "تَخَيَّرُون" في قوله (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُون) وأصل الفعل: تتخيّرون.
أمّا الثاني "تَدَارَكه" بقوله التالي، والهاء ضمير متّصل عائد على يونس- المُعَرَّب اسمه عن يونان النبي: (لَولا أَن تَدَارَكَهُ نِعمَةٌ مِن رَّبِّه...) والمفترض أن الأصل "تَتَدارَكه" لكن تمّ تخفيفه بحذف إحدى التّاءين، لأنّ "نعمة" اسم مؤنّث [وقرأ ابن هرمز والحسن "تَدّاركَه" بتشديد الدال، وهو مضارع أدغمت التاء منه في الدال. وهو على تقدير حكاية الحال، كأنه قال: لولا أن كان يقال فيه تتداركه نعمة. وعن ابن عباس وابن مسعود "تداركته" وهو خلاف المرسوم و"تَدَارَكَهُ" فعلٌ ماضٍ مذكَّر حُمِل على معنى النعمة؛ لأن تأنيث النعمة غير حقيقي. و"تداركته" على لفظها]- تفسير القرطبي.
وتعليقي أوّلًا: لعلّ من اللافت أنّ إعراب "تداركه" في تفسير القرطبي تارة مضارع وتارة ماضٍ مذكّر، لكن الطبري تعامل مع هذا الفعل بصيغة الماضي: [لولا أن تدارك صاحب الحوت نعمة من ربه، فرحمه بها...] فجعل الطبري النعمة في حُكم المذكّر، كما يبدو، كذا في تفسير البغوي: [لولا أن تداركه: أدركته] أمّا "إعراب القرآن لقاسم دعاس" المعتمد إسلاميّا: [تداركه مضارع منصوب بأنْ ومفعوله، نِعمَة فاعل] ما دلّ على أنّ أصل تداركه: تتداركه أو أنّ القراءة الصحيحة: تدّاركه، بتشديد الدال. لذا اختلف المفسّرون حتّى في الإعراب. قلت بعد هذا التدقيق: واعَجَبًا ممّن حَفِظ القرآن بدون فهم معنى لغته وقواعدها.
ثانيًا أنّي أتّفق مع قراءة كلّ من ابن عباس وابن مسعود لأن المنطق اللغوي يقول أن "نعمة" مؤنّث وأنّ الحادثة من الماضي فالفعل الماضي "تداركته" أقرب إلى الصواب من المضارع "تتداركه أو تدّاركه- بتشديد الدّال" لكنّ القراءة التي تهمّ القارئ، من جهة أخرى، هي تلك المدوّنة في "اللوح المحفوظ" فأيّ القراءتين محفوظة، هل المرسومة في المصحف أم خِلافها أم كلاهما؟ لا يخفى عن القارئ-ة ثقل شخصية كلّ من ابن عبّاس وابن مسعود في الإسلام! لكنّي سأبدي رأيي في سبب اختلاف القراءة، ممّا يأتي بعد قليل.
وإليك مثالًا آخر: (إنّ البَقرَ تَشَابَهَ علينا)- البقرة:70 لكن قُرئ الفعل "تَشَابَهَ" في إحدى القراءات: تَشابَهُ، بفتح كلّ من التاء والباء وضمّ الهاء، بمعنى تتشابَهُ، فطُرِحتْ إحدى التّاءين تخفيفا، وهذا من الوارد في الشعر ومن الجائز أيضا لضرورة شعرية متعلّقة بالوزن الشعري، ما لا حاجة إليه في السجع ولا في غيره من أنواع النثر، حتّى إذا اعتُبر القرآن خواطر شعريّة، لأنّ خواطر القرآن بشكل عام قد افتقرت إلى الوزن. والغريب وجود قراءات قرآنية أخرى بدلًا من "تشابه" ممّا في كتب تفسير القرآن، وهي: يشّابه- بتشديد الشين- تشابهت، متشابه، متشابهة.
والمزيد، بتفصيل مريح، في باب "أنواع القراءات" في "الشخصية المحمدية" ص1065 أو ص703 على الانترنت. وقد جمعها الشاعر من خمسة مراجع؛ منها "الكشّاف" للزمخشري و"الإتقان" للسيوطي و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري.
عِلمًا أنّ الكتاب المقدَّس بعهديه بعيد عن إشكاليّة الحرف، لأنّ مترجميه عن اللغات الأصليّة اعتمدوا المعنى، لا الحَرف، لكن بعض تلاميذ الفلسفة واللاهوت يدرسون الترجمة الحَرفيّة، فلا اختلاف جوهريًّا ما بين ترجمة وبين أخرى لدى غالبية الطوائف المسيحيّة.
والجدير ذكره بالمناسبة قول الوحي الإلهي بلسان الرسول بولس: {ليس أنّنا كُفاة من أنفسنا أنْ نفتكر شيئًا كأنّه من أنفسنا، بل كفايتنا من الله، الذي جَعَلنا كُفاة لأن نكون خدّام عهد جديد. لا الحرف بل الروح. لأنّ الحرف يقتل ولكنّ الرُّوح يُحيي}+ 2كورنثوس 3: 5-6
هل أساء مؤلِّف القرآن إلى عِلم الله؟
قد يستغرب القارئ-ة من موافقة محمد على قراءة القرآن كيفما اتّفق بإيعاز من ربّه! فهل يعتبر اختلاف القراءة مشكلة قرآنية أم مِن المسلّمات (1) بمعنى أن المعترض على الاختلاف لم يتدبّر القرآن لجهله ولتقصير عقله، إذ قال مؤلِّفه (أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرا)- النساء:82؟ ففي تفسير الطبري- بتصرف: [لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض. عن الضحاك قال "يتدبرون" النظر فيه. وعن قتادة قال؛ أي: قول الله لا يختلف، وهو حقّ ليس فيه باطل، وإنّ قول الناس يختلف. وقال ابن زيد: إن القرآن لا يكذّب بعضه بعضًا، ولا ينقض بعضه بعضا، ما جهل الناس من أمر، فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم] انتهى.
وسأفحص هذا الدفاع عن القرآن ليقرّر القارئ-ة جوابًا صحيحًا على السؤال التالي: هل كان المدافعون عمومًا على بيّنة مِن إشكاليّات القرآن (كالطبري والقرطبي) أم على غباء واضح وتعصّب فارغ واستخفاف بعقول الناس ما لا يستحقّ الاحترام (كابن زيد- إذا صحّ ما نُسِبَ إليه) (2) أم على سذاجة وقلّة اطّلاع؟ فقد وردت الأحاديث التالية في تفسير الطبري- مثالًا- وفي الصَّحِيحَين وفي غيرهما من كتب التراث الإسلامية:-
الأوّل أنّ محمدًا قال: [هكذا أُنزِلتْ! إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسّر منه]- عن عمر بن الخطّاب. ومعنى الأحرف: اللغات أو اللهجات، فبعض القرآن بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل (كما في مصحف ابن مسعود ممّا يأتي ذكره بعد قليل) وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن... إلخ.
والثاني [أنّ "رسول الله" يأمركم أن يقرأ كلّ رَجُل كما عَلِم]- عن علي بن أبي طالب.
والثالث عن عبدالله بن مسعود قال: [إني سمعت القرّاء فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما عَلِمتم، وإيّاكم والاختلاف والتنطّع]- ثابتة عند السَّلف ومشهورة في باب: القراءة سُنّة متَّبعة.
والرابع عن أُبَيّ بن كعب- بتصرّف: [إن النبي كان عند أضاة بني غفار قال: فأتاه جبريل فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على حرف فقال محمد (أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمّتي لا تُطيق ذلك) ثم أتاه الثانية فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على حرفين فقال (أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمّتي لا تطيق ذلك) ثم جاءه الثالثة فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: (أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمّتي لا تطيق ذلك) ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على سبعة أحرف فأيّما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا]- صحيح مسلم. ومثله في "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي، باب معنى قول النبي ص: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسّر منه.
وتعليقي أوّلًا؛ يبدو لي من حديث أُبَيّ بن كعب أنّ ربّ محمّد جَهِل ما ناسب الأمّة من الأحرف التي تطيقها، فكان محمّد أعلم من ربّه بها. وتاليًا؛ ألا توجد في القرآن إساءة إلى عِلم الله من هذا القبيل؟ تأمَّل-ي لطفًا في التالي:
"الآنَ" خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ و"عَلِمَ" أنّ فِيكُمْ ضَعفا- الأنفال:66
"رُبّما" يَوَدُّ الّذين كَفَروا لو كانوا مسلمين- الحِجْر:2
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ "لِنَعلَمَ" أَيُّ الحِزبَين أحصَى لِمَا لَبِثُوا أمَدا- الكهف:12
ولَنَبلُوَنَّكُمْ حتّى "نَعلَمَ" المُجاهدينَ منكمْ والصّابرين- محمد:31
وتعليقي ثانيًا؛ إذا افترضنا أنّ جبريل يُنزّل كلامًا على رسول من إحدى الأمم فإنّ "لسان" جبريل ينطق الكلمة بلغة واحدة، لا يُعقَل أن ينطق الكلمة نفسها بأزيد من لغة في وقت واحد. ولا يُعقَل أن ينطق جبريل حسب رغبة قبيلة معيّنة ولغة "الرسول" غير لغتها. فإن جَهِل الرسول معناها فالمنطق يقول أنّ جبريل قد يقدّر الموقف فيأتي بلفظ آخر مرادِف لكي يفهم الرسول، إلّا إذا أُمِر الرسول بقراءة المنزَّل عليه بغضّ النظر عن فهم معناه، في هذه الحالة لا ضرورة لأيّ لفظ آخر، لأن اختيار اللفظ ملقًى على عاتق جبريل، فتارة يلفظ بلغة قبيلة معينة وتارة بلغة قبيلة أخرى، هكذا حتّى اللغة السابعة. أمّا إذا اقتضت الحال أن يفهم الرسول ما يُنزَّل عليه، فإنْ جَهِلَ الرسول اللفظين معًا فقد يدفع جهلُه جبريلَ إلى انتقاء لفظ ثالث ورُبّما رابع حتى السابع، على افتراض رحابة صدر جبريل، وسعة علمه بألفاظ القبائل السبع، وجَهْلِه ما يفهم الرسول بالضبط. وانتهت نظريّة الافتراض.
لكنّي أقول ما تبرير تنزيل نحو 275 لفظة أعجمية في القرآن "العربي المُبين" الذي "نزل به الروح الأمين" فهل من الأمانة التنزيل بلفظ أعجمي؟ وهل عجز جبريل من العثور على كلمة عربية لتقابل بالمعنى أية كلمة أعجمية ممّا في القرآن؟ فإلى أيّ حرف من أحرف العرب السبعة يُنسَب كلّ من الألفاظ التالية كغيض من فيض:
الإنجيل- عن اليونانية.
تابوت- عن القبطية.
قَسْوَرة، مشكاة- عن الحبشية.
سورة، الطّور- عن السريانية.
جَهَنَّم، ماعُون- عن العبرية.
أباريق، إِستَبرَق- عن الفارسية... إلخ. وإلى أيّ حرف يُنسَب "الصَّمَد" الذي اختلف أهل التأويل في معناه بدون توصّل إلى الصحيح من بين ثمانية عشر معنى مفترضًا في تفسير الرازي سورة الإخلاص؟ وإلى أيّة لغة تُنسب "كهيعص" المحسوبة على الأحرف المقطّعة؟
فإذْ دافع عن القرآن أحد المدافعين بالقول [اشتمل الشعر "الجاهلي" على ألفاظ معرَّبة من قبل أن ينزل القرآن؛ مثل (السجنجل) وهي لغة رومية ومعناها: المِرآة؛ إذ وردت في معلقة امرئ القيس:
مهفهفةٌ بيضاءُ غير مفاضة – ترائبُها مصقولةٌ كالسَّجَنجَلِ
و(الجُمان) أي الدّرّة المصوغة من الفضة، وأصل هذا اللفظ فارسي، ثم عُرِّب، وقد جاء في قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
وتُضيء في وجه الظلام منيرة – كَجُمَانةِ الْبَحرِيِّ سُلَّ نِظَامُها
إلى قول المدافع: لقد عَرَّبت العرب هذه الكلمات وأمثالها، وأصبحت من نسيج كلامها...] انتهى. فالردّ عليه من جهتي هو أنّ الشاعر ما قبل الإسلام ما ادَّعى أن لسانه عربي "مُبين" مثلما زعم مؤلِّف القرآن! إليك- مثالًا- تفسير الطبري (بلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين- الشعراء:195) [يقول: لتُنذِرَ قومَكَ بلسان عربي مبين، يبين لمَن سَمِعَه أنه عربي، وبلسان العرب نزل... إلخ] انتهى. فوجود الكلمات الأعجميّة يعني أن القرآن ليس كلّه بلسان عربي مبين، ما يؤدّي إلى الاستنتاج أنّ الحقيقة، أو الواقع، على خلاف المدوَّن في القرآن. وإذا اقتضت الشهادة دليلين قاطعَين فإن لديّ أدلّة عدّة، إليك منها سلوك مؤلِّف القرآن مع بَنِي قُرَيظَة [لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصرَ إلّا في بَنِي قُرَيظَة] والمزيد في تفسير الطبري الأحزاب:26 أمّا إذا كنت من الطائفة الشِّيعيّة فإليك- مِثالًا: "مجمع البيان في تفسير القرآن" للعلّامة الطبرسي والكتاب متوفّر على الانترنت، من السهل البحث فيه وتصفّحه، فما وجدتُ فيه اختلافًا جوهريًّا عن تفسير الطبري المذكور. إنّما ثبت لديّ اختلاف سلوك مؤلِّف القرآن تمامًا عن قوله (وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين- الأنبياء:107) أي أنّ الزاوية الهندسية ما بين فعله وبين قوله حوالي 180⁰ والمزيد في مقالتي (وقفة بين الكتاب المقدَّس وبين غيره– ج15 المُرسَل رحمة للعالَمِين).
وقفة على تبرير اختلاف القراءة القرآنية
لقد اعتبرتُ تبرير اختلاف القراءة القرآنية فاشلًا إذ نظرت إليه من ثلاث جهات؛
الأولى: نسيان مؤلّف القرآن ما أوحِيَ عليه! وفي رأيي؛ لو كان الوحي مِن عند الله لما نسيه! انظر-ي الحديث (وسألوه عن السورة فسكت ساعة، لا يرجع إليهم شيئا، ثم قال: نُسِخت البارحة)- عن أقسام المنسوخ، ما نُسِخ رسمُه وحُكمُه.
لذا لا تحتاج في رأيي مسألة تحريف القرآن إلى غوص في الحديث ولا سيّما قوله (نُسِخت البارحة) ولا إلى تعمّق في دراسته، يكفي اعترافه بأنّ ربّه أنساه بعض "الآيات" ثمّ أتاه (بخير منها أو مثلها) دليلا قاطعًا على تحريف القرآن بنقص أو زيادة: (ما نَنْسخْ مِن آية أو نُنْسِها نأت بخير منها أو مثلها ألمْ تعلم أن الله على كل شيء قدير)- البقرة:106 فليتصفّح القارئ أيّ تفسير ممّا يتيسّر له مِن كتاب معتمد لدى المسلمين لعلّه يحصل على جواب عن تساؤل واحد: هل بقيت "الآية" المنسوخة أو المنسيّة في اللوح المحفوظ؟ هذا بغضّ النظر عن المنسوب إلى الله في القرآن بأنه (نسخ كلامه) ما يتعارض مع عِلم الله. عِلمًا أنّ النسخ هنا لا يعني الكتابة، بشهادة أهل التفسير، إنّما المقصود به التغيير والتبديل. فإذا بقيت "الآية" المنسوخة، أو المنسيّة، في اللوح المذكور فإن الله احتفظ بها عنده بعد إطلاع بعض الخلق عليها فأخفاها عن سائر الخلق، وهذا يضادّ قوله (عَلَّم القرآن)- الرحمن:2 لأنّ القائل إذ نسخ، أو أنسى، عَلَّم قسمًا من القرآن ثمّ راجَعَ فِكره، أو قراره، فأخفى آخر. أمّا إذا محاها الله من اللوح لأنها غير نافعة أو لسبب آخر، فهذا يضادّ عِلم الله بما ينفع الإنسان. صحيح أنّ الله قدير على كلّ شيء، لكن هذه القدرة لا تتعلّق بالمُحال وليست على حساب منزلته ولا على حساب عِلمه وهو عَلّام الغيوب. لهذا السبب أيقن المؤمن-ة أنّ من المُحال أن ينسخ الله كلامه بين ليلة وضحاها. ومَن يرغب في معرفة المزيد عن معنى النسخ فليطالع تفسير البقرة:106 لدى كلّ من الطبري وابن كثير.
والثانية: خطأ النّاسخ (أي الكاتب) باعتراف السيدة عائشة! إذ رُويَ عنها أنها [سُئلت عن قوله (والمقيمين) وعن قوله (والصابئون) وعن قوله (إنّ هذان) فقالت يا ابن أختي: هذا كان خطأ من الكاتب] فلو كان القرآن من عند الله لحفظه الله من أخطاء ذلك الكاتب.
والثالثة: تأمّل-ي في قراءة القرآن بألفاظ مختلفة، حتّى إذا افترضنا اتّفاق معانيها، بموافقة من مؤلِّف القرآن وفق الأحاديث المذكورة أعلى. فإن وُجِدت الأحرف السبعة في "اللوح المحفوظ" فإنّ عثمان حرّق منها ما حرّق ولا سيّما المختلف عليه بين الأربعة الذين أمرهم عثمان بنسخ صحف السيدة حفصة في المصحف المسمّى باٌسمه، ثلاثة منهم قرشيّون (عبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام) والرابع أنصاري- زيد بن ثابت- فإذا اختلف الثلاثة مع زيد في شيء من القرآن فالأفضلية للسان قريش. وأمر عثمان بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق! فلو كان القرآن من عند الله لما استطاع عثمان تحريق شيء، لأن الله حافظ كلامه. فالمشكلة متعلِّقة باللوح! إذ قوَّل محمد ربّه "فأيّما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا" حسب الحديث المذكور أعلى. فالتقويل المذكور يدلّ على أن الأحرف السبعة محفوظة في اللوح. فإذا اتّفقنا على صحّة التقويل فمَن الذي أعطى عثمان رخصة جمع القرآن بلسان قريش في حال الاختلاف، ومَن الذي رخّصه لتحريق "كلام الله" المدوَّن في حوالي ثلاثين مصحفًا من المرجَّح احتواؤها على الأحرف جمعاء؟
وتاليًا؛ ما جدوى بقاء ستّة أحرف في "اللوح المحفوظ" مختلف عليها بعد قيام عثمان بتحريقها؟ عِلمّا أنّ عثمان حرّقها على رغم اعتراض عبدالله بن مسعود، حافظ 70 سورة من فم مؤلِّف القرآن طوال حوالي عشرين سنة، لم ينازعه فيها أحد، وكان مصحفه شائعًا في الكوفة. وعِلمًا أن عمر بن الخطّاب، قبل عثمان، نهى ابن مسعود عن القراءة بغير لغة قريش (3) فلماذا نهى عمر وعثمان عن قراءة ابن مسعود على رغم سماح ربّهم بقراءته بأيّما حرف سواء لابن مسعود ولغيره؟
تجد-ين المزيد عن حِفظ كلام الله وعن "اللوح المحفوظ" في مقالتي- وقفة بين الكتاب المقدَّس وبين غيره– ج3 حِفظ كلام الله.
عِلمًا أنّ الرصافي دوَّن في "الشخصية المحمدية" أدلّة قاطعة على ضياع قرآن كثير عند جمعه، نقلًا عن "الإتقان في علوم القرآن" للسّيوطي، فاقتطفت التالي من كتابه- بتصرّف:
[وفي "الإتقان" ج1 ص65 عند الكلام على عدد السور، قال في المستدرك عن مالك: إنّ أوّل براءة (أي سورة التوبة) لمّا سقط معه البسملة قال: فقد ثبت أنها كانت تعدل "البقرة" لطولها. فمن هذه الروايات نعلم أن القرآن قد أُسقِط منه شيء لا يستهان بكثرته كما تقدّم في حديث ابن عمر "لقد ذهب منه قرآن كثير" ونعلم أيضًا أن الذي أُسقِط منه، عندما أمر عثمان باستنساخ المصاحف، لم يكن كلّه مُسقَطًا بعد وفاة النبي، بل منه ما أُسقِط وهو حيّ يُوحَى إليه]- باب: هل سقط شيء من القرآن عند جمعه، ملاحظة ص869 في الكتاب أو ص581 في نسخة الانترنت.
ـــ ـــ
أسلوب (تَخَيَّرُون، تَدَارَكَهُ) مقتبَس من شعر العرب
ربّما بقيَ أن أُثبت أنّ أسلوب كلّ مِن (تَخَيَّرُون، تَدَارَكَهُ) شِعريّ، لا شكّ لديّ في اقتباسه من شعر العرب. إليك من الأمثلة ما سبق تأليف القرآن؛
الأوّل " تعاوَرُهُ" في معلَّقة عنترة بن شدّاد- على وزن بحر الكامل:
إِذْ لا أزالُ عَلَى رِحَالةِ سَابحٍ – نَهدٍ تَعَاوَرُهُ الكُماةُ مُكَلَّمِ
ومعنى تعاوَرُهُ: تتداولُه بالضرب أو الطعن. والأصل تتعاوره، حُذِفت إحدى التّائين تخفيفًا، لكن لضرورة شِعريّة، وإلّا لاختلّ وزن عجز البيت.
والثاني "تَذَكّرُ" في معلَّقة لبيد بن ربيعة- على الكامل أيضا:
بلْ ما تَذَكَّرُ مِنْ نَوارَ وقد نأتْ – وتَقَطَّعَتْ أسبابُها ورِمَامُها
وأصل الكلمة: تتذكَّر. والتخفيف لضرورة شعرية تخصّ وزن صدر البيت.
أمّا الثالث فهو "تَكَلَّمِ" في مطلع معلَّقة زهير بن أبي سُلمى- على وزن الطويل:
أَمِنْ أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ – بحَومانةِ الدُّرَاج فالمُتثَلَّمِ
فأصل الكلمة: تتكلّم، والتخفيف لمنع اختلال وزن صدر البيت لا لسبب غيره.
فلأيّ سبب خَفَّف مؤلِّف القرآن كلّا مِن "تَخَيَّرُون" و"تَدَارَكه" وهذا التخفيف متعلِّق بالشِّعر فقط لضرورة الوزن الشعرية؟ أما دلّ التخفيف على تمنّيه أن يكون شاعرًا لكنّه أخفق، أم دلّ على أنّه أراد أن يقول للشعراء ما معناه "إنّ عندي ضرورات في القرآن هي ممّا عندكم في الشعر" كما أراد أن يقول للكهّان الوثنيّين ما معناه "إنّ عندي من السجع ما عندكم" فمِثالًا سورة العاديات لا حصرًا؟ قلت كما قلت فيما مضى: لو انّ القرآن موحًى به من الله لأوحى بكلام يتفوّق بمستواه الأدبي على شعر الطبقة الأولى من شعراء زمانه، كالنابغة الذبياني والخنساء، وعلى سجع الكهّان. وأقول الآن؛ لو ارتقى مستوى القرآن أدبيًّا إلى شعر الطبقة المذكورة وإلى سجع الفترة التي عاصرها لتوافد الشعراء والكهّان على مؤلِّفه مؤدِّين له التحية والولاء ورافعين عمائمهم، أو عُقُلهم، احترامًا للقرآن وتقديرا. لكنّ النقيض هو ما حصل، إذ هجاه كلّ مِن كعب بن الأشرف وأبي عفك وكعب بن زهير بن أبي سلمى، قبل اعتذاره فيما بعد بقصيدة البردة، وعصماء بنت مروان وغيرها. وقصّة مؤلِّف القرآن مع الشعراء خصوصًا طويلة وشائكة، ممّا في قسم لاحق، لكنّ الثابت في التراث الإسلامي، ممّا عثرت عليه، أنّه أصغى إلى شعر كلّ من امرئ القيس وطرفة بن العبد وعنترة بن شدّاد وأميّة بن أبي الصَّلت. فاستمتع بما تُلِيَ عليه معنًى لا نظمًا. فلم ينظم شعرًا، إلّا قليلًا ممّا في القرآن، ما عَكَسَ قلّة انسجامه مع موسيقى الشعر، بَرَّرها بأنّ الله لم يُعَلِّمه الشِّعر (يس:69) كأنّما الله وراء تعليم امرئ القيس وسائر الشعراء.