نقرأ في الأصحاح التاسع من إنجيل يوحنّا 1-7 أنّ السيد المسيح فتّح عيني أعمى منذ الولادة بمعجزة لا نظير لها في تاريخ البشرية (يوحنّا 9: 32) ونقرأ تاليًا اشتباه بعض الجيران في شخصية المُبصِر بعد العمى والمُبصِر يؤكد أنه هو 13 سَوق المُبصِر إلى كهنة اليهود ولا سيّما أن المعجزة حصلت في يوم سبت فسألوه عن كيفية إبصاره 18 استدعاء والدَي المُبصِر للاستفسار عن هويّته وعن كيفية إبصاره فأنكر الوالدان معرفتهما خوفًا من اليهود 24 استجواب المُبصِر مرّة ثانية من الكهنة والمُبصِر يؤكّد أنّه كان أعمى والآن أبصر 28 الكهنة يشتمون المُبصِر لأنّهُ أفحمهم بجوابه على أسئلتهم معتبرين أنّه صار تلميذًا للذي شفاه- يسوع- إذ اعتبروا أنفسهم تلاميذ موسى النبي 34 إخراج المُبصِر من مجمع اليهود لأنه وافق يسوع قائلا: لو لم يكن الذي شفاني من الله لما استطاع صنع شيء، لأنّ الله لايستمع للخطأة، وما سَمِعَ أحَدٌ يومًا أنَّ إنسانًا فتَحَ عَينَي مَولودٍ أعمى 35-38 عِلمُ يسوع بإخراج المُبصِر من المجمع والالتقاء به والسؤال عن إيمانه بابن الله والمبصر يؤمن بأنّ يسوع ابن الله ويسجد له 41 يسوع يوبّخ كهنة اليهود قائلا: {لَو كُنتُم عُميانًا لَمَا كانَتْ علَيكُم خَطيئة. ولكِنْ ما دُمتُم تَقولونَ إنَّنا نُبصِرُ فخَطيئتُكُم باقِـيَة}+ آمين.
وفي هذا الأصحاح إشارات إلى العهد القديم؛ إليك أبرزها:-
الإشارة الرئيسية
{أفتقِدُ ذنوبَ الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع مِن مُبغِضِيَّ}+ سِفر الخروج 20: 5 فهلْ فهِمَها بعض اليهود كما يجب؟ كلّا. لاحظ-ي أنّ الله قال {أفتقد} لم يقُلْ "أعاقب" فالمؤسِف أنّ بعض القرّاء لا يركّز على دقّة المفردات في الكتاب المقدَّس فيتّضح المعنى ويكتمل.
مَن يتأمّل في الآيات السبع الأولى مِن يوحنّا\9 يجد إشارة لافتة إلى العهد القديم، إذا كان مُطّلِعًا عليه: {وبَينما هو (يسوع) في الطَّريق، رأى أعمى مُنذُ مَولِدِه. فسألَهُ تلاميذُه: يا مُعَلِّمُ، مَنْ أخطأ؟ أهذا الرَّجُلُ أم والداه، حتى وُلِدَ أعمى؟ فأجابَ يَسوع: لا هذا الرَّجُلُ أخطَأَ ولا والِداه. ولكنَّهُ وُلِدَ أعمى حتّى تَظهَرَ قُدرةُ اللهِ وهيَ تَعمَلُ فيه. علَينا، ما دامَ النَّهار، أنْ نَعمَلَ أعمالَ الّذي أرسَلَني. فمتى جاءَ اللّيلُ لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَعمَل. أنا نُورُ العالَم ما دُمتُ في العالَم. قالَ هذا وبَصَقَ في التُّراب، وجَبَلَ مِنْ ريقِهِ طِينًا ووضَعَهُ على عَينَي الأعمَى. وقالَ لَه: إذهَبْ واَغتَسِلْ في بِركَةِ سَلوامَ (أي بركة الرَّسول) فذَهَبَ واَغتَسَلَ، فأبْصَر}+ يوحنّا 9: 1-7
ففي سؤال التلاميذ {يا مُعَلِّمُ، مَنْ أخطأ؟ أهذا الرَّجُلُ أم والداه، حتى وُلِدَ أعمى؟} إشارة إلى: {لأنّي أنا الرَّبّ إلهُك إله غيور، أفتقدُ ذنوبَ الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع مِنْ مُبْغِضِيَّ...}+ الخروج 20: 5 المؤكَّد عليها في التثنية 5: 9 فواضح أنّهم كانوا على عِلم بالتوراة، بصفتهم من اليهود، لكنّهم لم يدقِّقوا فيها ولا في معانيها، فاٌستفسَروا يسوع؛ على أنّ الله عاقب مولودًا نتيجة أخطاء والديه- حسبما تصوَّروا- عِلمًا أنّ النّاس جميعًا خطأة إذ {زاغُوا وفَسَدُوا مَعا... الجَمِيعُ أَخْطَأُوا وأعوَزَهُمْ مَجْدُ الله}+ رومية 3: 12 و23 و5: 12 والمزامير 14: 3
لكنّ الله صحَّح هذا المفهوم، في التوراة عينها؛ بفم موسى النبي:
{لا يُقتَل الآباء عن الأبناء، ولا يُقتل الأولاد عن الآباء، كلّ إنسان بخطيّته يُقتَل}+ التثنية 24: 16
وأكّد على تصحيحه بلِسَان حزقيال النبي: {هَا كُلُّ النُّفُوسِ هِيَ لِي. نَفْسُ الأَبِ كَنَفْسِ الإبْن، كِلاَهُمَا لِي. اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوت}+ حزقيال 18: 4 وانظر-ي حزقيال 18: 20
إلاّ أنّ الفكرة الخاطئة بقِيَت حتّى زمن المسيح، والدليل أنّ كهنة اليهود الذين استجوبوا المُبصِر قالوا له {في الخطيئة وُلِدتَ أنت بجُملتك}+ يوحنّا 9: 34 ما دلّ على إغفالهم فهم آية الخروج 20: 5 غير مدقِّقين في التوراة ولا في أسفار سائر الأنبياء، ما دعا المسيح إلى التنويه ببقاء هذه الخطيئة عليهم- في الآية الأخيرة من يوحنّا\9 وكثرما وبّخ المسيح اليهود بقوله: {أمَا قرأتُمْ...؟} وإليك أمثلة:
{فقَالَ لَهُمْ: أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَه؟}+ متّى 12: 3 ومرقس 2: 25 ولوقا 6: 3
{وقالَ لَهُمْ: أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنثَى؟}+ متّى 19: 4
{فقالَ لَهُمْ يَسُوعُ: نَعَمْ! أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ: مِنْ أَفواهِ الأطْفَالِ وَالرُّضَّع هَيَّأْتَ تَسبِيحا؟}+ متّى 21: 16
{قالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ في الكُتُب: الحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ البَنّاؤُونَ هُوَ قد صَارَ رَأْسَ الزّاوية؟}+ متّى 21: 42 ومرقس 12: 10
ـــ ـــ
معنى افتقاد ذنوب الآباء في الأبناء
إليك الآن معنى قول الله لنبيّه موسى {أفتقدُ ذنوبَ الآباء في الأبناء} حسب التفسير المسيحي:
[إنّ الله يبحث في الأبناء؛ هل ما تزال خطايا أبائِهم موجودة، أما يزال الأبناء يُبغِضون الله، كما فعل الآباء؟ حينئذ يُعاقب الأبناء. وقوله {في الجيل الثالث والرابع} علامة لانتشار الخطيّة فتعمّ العقوبة. لاحظ-ي أنّ الله لم يقل "أعاقب الأبناء" بل قال {أفتقد} أي أبحث عمّا إذا كانت الخطية ما تزال موجودة. ولكن في بعض الأحيان؛ ينشأ طفل بمرض ناتج عن خطيّة ورثها عن أحد والديه المُصاب بأحد الأمراض الناتجة عن الرَّجاسة (حزقيال 20: 4) كأنْ يُنهك الوالد صحّته فيخرج ابنه ضعيفا...
ما نفى المسيحُ وجودَ علاقة ما بين الخطيّة والمرض، فمِن المؤكد وجودها، لكنّ من العسير أن ندركها بعيوننا. لذا لا يصحّ أن نقول عن كلّ متألم "إنّه متألم نتيجة خطيّته" كما أنّ علينا ألّا نفكر فيمن أخطأ بل أنْ نصلّي للمتألم! لكن من السهل أن نؤمِن أنّ كل شيء يؤول إلى مجد الله، وكلّ الأمور تعمل معًا للخير للذين يحبّون الله (رومية 8: 28) فمِن علامات وجود علاقة ما بين المرض وبين الخطية قول المسيح لمُقعَد بيتَ حَسْدا: {لا تُخطِئْ لئلّا يكون لك أشَرّ}+ يوحنّا 5: 14]- بقلم القس أنطونيوس فكري.
وتعليقي: أنّ كلّ خطيئةٍ بغيضةٌ في نظر الله ولا سيّما بعد إعلانه عن وصاياه، وبعدما كشف في شخص المسيح عن مصدر كلّ منها، كالغضب المتسبّب في القتل، والحسد المتسبّب في الكراهية.
ـــ ـــ
خلفية افتقاد ذنوب الآباء في الأبناء
[إنّ هذه القضية ليست عامّة، إنّما قِيلت عن أناس مِن العِبرانيّين؛ لمّا خرجوا من مصر، صاروا بعد رؤيتهم آيات وعجائب أشَرّ مِن آبائهم الذين لم يشاهدوا مثلها، لهذا يُقاسي الأبناءُ المصائبَ نفسَها التي قاسى الآباء، إذ تجاسر الأبناء على فعل خطايا الآباء...]- بقلم القمّص تادرس يعقوب ملطي.
الهدف من افتقاد ذنوب الآباء في الأبناء
إليك تفسيرًا مسيحيًّا مِن أحد مُفسِّري العهد القديم:
[مِن المحقَّق بمقتضى قضاء الله أنّ ذنوب الآباء تُفتقَد في الأبناء. فالأمراضُ الخبيثة التي يُعرّض الوالدان أنفسهم لها تلحق أولادهم إرثًا طبيعيّا. وتوغُّل الوالدَين في الخلاعة والشهوات والمسكرات يترك أولادهم فقراء، وأعمال الأشرار بلاء لأنسالهم، حتى تصير أجسامُهم وعقولُهم على توالي العصور عرضة لكلّ ألم ومرض. ويكفي أن نذكر هنا ما لحِقنا من خطيئة الوالدَين الأوَّلَين.
فذكر الله هذا النهج الذي أودعه عالم الطبيعة ردعًا للوالدين عن التهافت إلى المعاصي وارتكاب الآثام. على أنّ الأولاد يستطيعون بمعونة الله أن يقاوموا قبيح المُيول الوراثية فيخلُصوا منها بعد بضعة أجيال، ولا يمكن الخلاص منها بلا اجتهاد في الإدراك، بمساعدة القادر على كل شيء. لكن الجدير ذكره أن الأولاد لا يُطالَبون يوم الدينونة بأعمال والديهم! لأنّ خطِيئة الأب لا تلحق الإبن، إنّما كلّ شخص مسؤول بعمله: {اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوت. اَلٱبْنُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ ٱلأَبِ، وَٱلأَبُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الإبن. بِرُّ ٱلبَارِّ عَلَيهِ يَكُونُ، وشَرُّ ٱلشِّرِّيرِ عَلَيهِ يَكُون}+ حزقيال 18: 20]- بقلم وليم مارش.
ـــ ـــ
نظرة المسيح العميقة إلى الشريعة
أمّا بعد؛ فقد كان جواب المسيح: {3 لا هذا (الأعمى) أَخطَأَ وَلا أَبَوَاه، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعمَالُ اللهِ فِيه}+ وفي التفسير المسيحي: [لم يصادق الرّبّ يسوع على أيّ من الإثنين، إذْ نظر إلى أعماق الشريعة! لم ينظر إلى هذه المسألة- العمى- بأنّها عقابٌ للخطيّة، كما نظر التلاميذ، إذْ كانت نظْرتُهُم للأمور سطحيّة! ولقد ألقى المسيح بجوابه نورًا جديدًا في هذا الأمر؛ خُلِق هذا الرجل لتظهر أعمال الله فيه. فإن كانت للخطيّة نتائج مخرّبة في هذا العالم وأنّها سبب كل عقاب يناله الإنسان فأنّ هذا ليس كلّ شيء، إنّما معاملات الله ظاهرة للإنسان، لا ليُظهِر الله بِرّه وعدله فحسب، بل محبّته ونعمته أيضا. والله يُجري أعمال نِعمِه في مقابل خطايانا ونتائجها المحزنة.
تاليًا؛ وراء كلّ طفل يولد بعاهة غرض. وإذْ كان بعض العاهات من نتائج الخطيّة، فإنّ غرض الله الأساسي من وجودها هو أن يعمل عملًا ما بالإنسان يتمجّد الله من خلاله بظهور نعمته ومحبته، كشفاء ذلك الأعمى، لكنه قد يستخدم مثل ذلك الشخص وهو بعاهته في ناحية أخرى من نواحي الحياة، بطريقة قويّة وعَجيبة. ولنا في العهد القديم سِفر بأكمله يدور محوره حول هذا الموضوع- سِفر أيّوب- وأصحاب أيوب أخطأوا بالطريقة نفسها التي أخطأ بها التلاميذ هنا.
فلنتيقّنْ إذَنْ مِن صلاح الله ومحبته ونعمته في كلّ ما يقابلنا؛ إنْ كنّا لا نفهم معاملات الله في الوقت الحاضر سنفهَم فيما بعد، عندئذ تمتلئ قلوبنا بالحمد والتسبيح على كلّ شيء قد قابلنا]- بقلم هلال أمين.
وتعقيبًا على قول المفسِّر "فنظرة التلاميذ للأمور كانت سطحيّة" أقول: إنّ الرّوح القدس ما كان حالًّا على التلاميذ لكي ينظروا بعمق إلى هذه المسألة وغيرها. وعلى قوله "سنفهَم فيما بعد" أقول: يقتضي الفهم البقاء مع الله، لأنّ مَن يبتعد عنه لن يفهم شيئا من معاملاته.
وأقول تاليًا: لعلّ المُبصِرين جميعًا يشكرون الله على نعمة البصر، لأنّهم لم يولدوا عميان، ويصلّون من أجل العميان، ويمدّون يد العون لكلّ أعمى؛ قال لي أحدهم في لبنان خلال التسعينيّات: (لا تُعطِ الأعمى سمكة، لكنْ عَلِّمه كيف يصطادها) والقصد أنّ السمكة التي تُعطي الأعمى قد تكفيه يومين أو ثلاثة، حسب حجمها وحسب إمكانيّة حفظها، أمّا إذا علّمتَه كيفية اصطيادها فلن يحتاج إلى تصدّقك عليه فيما بعد.
لكنّ كلامي يشمل الجهلة المعلِّقين على مقالاتي ممّن لهم عيون سليمة ويهتمّون بالباطل عوض الحقّ المدوَّن في الكتاب المقدَّس، ويرون الأبيض أسود والعكس، وينشغلون بنملة وديعة تاركين الثور الهائج، ويغضّون النظر عن الفضيلة معتبرين خلافها فضيلة أو معجزة... إلخ.
أمّا حكمة الله فقد تجلّت في شؤون كثيرة مِمّا في الكتاب المقدَّس، إليك مثالًا ما وراء شكّ توما الرسول- أحد الإثني عشر- في قول تلاميذ المسيح {قد رَأَينا الرَّبَّ} والمعنى: (رأينا يسوع المسيح حَيّا، بعد صَلبه وموتِه ووضْعِه في قبر) فأثمرتْ مسألة توما هنا عن شهادتَين؛ الأولى لألوهيّة المسيح؛ إذ قال توما بعد رؤية المسيح قائمًا من الموت: {ربّي وإلهي!}+ يوحنّا 20: 28 والثانية: تحقيق نبوءة {ثَقَبُوا يَدَيَّ ورِجْلَيَّ} ممّا تنبّأ عنه النبي داود في المزمور 22: 16 لأنّ الإنجيليّين إذْ فصّلوا وقائع صَلب المسيح لم يذكروا ثَقْبَ يَدَي المسيح ورِجلَيه بمسامير، إلّا يوحنّا، نقلًا عن لسان توما! فبعدما {قالَ لَهُ التَّلاَمِيذُ الآخَرُون: قدْ رَأَينَا الرَّبَّ! قالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِير، وأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ المَسَامِير، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِه، لا أُومِنْ}+ يوحنّا 20: 25
ـــ ـــ
لعلّ خير ما أختم به هذه الإشارة هو أنّ السيد المسيح أعطى تلاميذه القدرة على صنع معجزات باٌسمِه، مثلما صنع وأعظم (يوحنّا 14: 12) فإذ فتّح المسيح عيني مولود أعمى، صنع بطرس الرسول، بعد حلول الروح القدس، معجزة لرَجُل {أعرَج مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يُحْمَل... وأَبصَرَهُ جَمِيعُ الشَّعب وَهُوَ يَمشِي ويُسَبِّحُ الله}+ ممّا في سِفر أعمال الرسل 3: 2-9 وكما أقام المسيحُ لعَازَرَ من الموت (يوحنّا\11) أقام بطرس تِلميذة في يافا اَسمُها طابيثة، ممّا في سِفر أعمال الرسل 9: 36-42