يوحنّا 16:3 "لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ".
جاء نيقوديمس إلى لقاء الرّب يسوع وعنده صورة ضيّقة ومشوهة عن الله. فهو كفريسي وعضو في مجلس السنهدرين الأعلى، اعتقد أن الله يحب اليهود فقط، بل اعتقد أن الله هو إله اليهود فقط، ولذلك فإن ما نطق به الرّب يسوع في يوحنا 16:3 يعتبر أعظم وأقدس وأروع إعلان عن طبيعة شخص الله ومحبته الشاملة للجميع. في الواقع أننا هنا نقف أمام واحدة من أهم وأعظم إعلانات الله في الإنجيل المقدس، بل يمكننا القول أننا نجد في هذه الآية ملخص رسالة الله للبشرية جمعاء: " هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأبديّة".
دعونا نتأمل في عمق وجمال وعظمة وقداسة هذا الإعلان العظيم لربّنا يسوع المسيح:
1. لأَنَّهُ هَكَذَا: يوجد لدينا في الأصل اليوناني كلمتنا وهما Οὕτως γὰρ (أوتوس جار): كلمة Οὕτως تعني "هكذا، أو بهذه الكيفيّة" وكلمة γὰρ هي حرف أو أداة تأكيد وتعني "بسبب" و "الحقيقة هي". وهكذا فإن الرّب يسوع هنا يقول لنا بأنّنا بصدد إعلان حقيقة بهذا المقدار الكبير والعظيم. فما سيتم الحديث عنه، أي المحبّة التي في قلب الله، لا تضاهيها أية محبّة في الوجود.
2. أَحَبَّ: الفعل اليوناني هو ἠγάπησεν (هيجابيسن) هو صيغة الماضي من الفعل ἀγαπάω ويعني "يحب، أو يفرح بِ، أو يسعد بِ، أو يمتلىء بأمنيات الخير". وقد ورد هذا الفعل ومشتقاته 143 مرّة في العهد الجديد عند الحديث عن المحبّة الإلهيّة الطّاهرة والمقدّسة. أي أن كلام الرّب يسوع هنا هو عن أعظم وأقدس وأروع وأطهر محبّة في الوجود. فالإنجيل هنا لا يتحدث عن عاطفة متأججة أو إحساس جميل ورقيق، بل عن موقف وحالة مستمرة مقرونة بالعمل من أجل خير وسعادة الجنس البشري. فالمحبّة هي أقدس وأروع وأفضل وصف لله، وذلك "لأَنَّ اللهَ محبّة" (يوحنا الأولى 8:4، 16). ومحبّة الله هي عطاء للذات قبل أي شيء آخر، أي أن الله يحبنا لدرجة بذل الذات أولًا ثم بذل البركات الروحية والمادية المختلفة. نقرأ في رومية 8:5 "وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا"، أي أن محبّة الله ليست أقوال ومشاعر، بل هي محبّة تعطي حياة المحب من أجل من يحبهم، تمامًا كما قال الرّب يسوع في يوحنا 13:15 "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ"، وقد طبق الرّب يسوع على نفسه إذ مات من أجل الجميع، لأن محبته لا تستثني أحدًا من الناس.
يحتاج كل إنسان في الوجود أن يعرف ويتذكر أن الله يحب العالم منذ لحظة الخلق. لذلك نجد الرّب يسوع هنا يستخدم الفعل الماضي "أحب" وليس المضارع "يحب"، وبهذا القول كشف الرّب يسوع أن علاقة الله مع العالم مؤسسة على المحبّة التي تعتبر أعظم فضيلة في الوجود (كورنثوس الأولى 13:13).
3. اللَّهُ: هو أعظم محب في الوجود، فالله خالق الجميع، ويحب الجميع لأنه يعرف الجميع، فلا يوجد ملاك أو قديس أو إنسان أظهر محبّة لغيره مثل الله، فهو المحب الأعظم.
4. الْعَالَمَ: هو أعظم جمهور في الوجود. فالله أحب ويحب وسيحب كل إنسان عاش في الماضي، ويعيش اليوم، وسيولد ويعيش في المستقبل. محبّة الله تشمل الجميع ولا تستثني أحدًا من الناس. تشترك عاطفة المحبّة بين جميع الناس، لأن الإنسان لا يستطيع الحياة بدون المحبّة، ومن لا يختبر المحبّة يتشوق إلى أن يحِبَّ ويُحَبَّ. لو أخذنا أي إنسان منا، سنجد أن عدد الذين يحبهم محدود جدًا، بل يمكن حصرهم بعدد أصابع اليد الواحدة. أما الله فيحب الجميع: يحب الصالح والشرير. يحب الرجال ويحب النساء. يحب الكبير ويحب الصغير. يحب الجميل وغير الجميل. يحب القصير ويحب الطويل. يحب صغير الجثة ويحب كبيرها. يحب الأبيض ويحب الأسود. يحب الفلسطيني واللّبناني كما يحب الرّوسي والامريكي. إن الله يحب الإنسان بغض النظر عن عرقه وجنسه ولغته ولونه ودينه ومركزه، ومثل هذه المحبّة العظيمة والشاملة والأبديّة تعتبر مصدر العزاء الأعظم لكل من يدركها.
من المؤسف والمؤلم حقًا أن مئات الملايين في عالمنا لا يعرفون نهائيًا أن الله يحبهم، وسبب ذلك أن الشيطان قد استطاع أن يخدعهم ويضلّلهم بواسطة الديانات والعقائد التي تعمي البصر والبصيرة وتقود الإنسان في درب الكراهية، دون أن يدرك حالته الروحية المزرية.
5. حتى بذل: الفعل في الأصل اليوناني هو ἔδωκεν (إدوكين) ويعني "يبذل ويقدّم ويعطي ويضع". فالحديث هنا هو عن أعظم عمل تم في التاريخ، وهذا العمل أو الحدث الأعظم هو أن الله جاء إلى الكرة الأرضية بصورة إنسان ليموت فداءً لكل إنسان في الوجود. في الواقع إن عقلنا البشري المحدود يعجز تمامًا عن إدراك عمق وسعة وشمولية وجلال وقداسة ومجد وعظمة هذا المحب تجاه الإنسان. لقد بذل الآب السماوي ابنه يسوع من أجلنا: إنه عطاء بلا حدود وبلا حساب، عطاء مجاني. عطاء لمن لا يستحق العطاء.
6. ابْنَهُ الْوَحِيدَ: وهذه أعظم تقدمة في الوجود، وهدية الله العظمى للجنس البشري. صحيح أن الله مصدر كل خير وعطاء في الوجود، كما نقرأ في رسالة يعقوب 17:1 بأنّ "كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ..." وفي أعمال الرسل 25:17 "إِذْ هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْءٍ"، ولكن كل عطايا الله الروحية والمعنوية والمادية تحسب كأنها لا شيء أمام أعظم عطية في الوجود ألا وهي ربّنا يسوع المسيح، الله الابن، الذي جاء في صورة إنسان ومات من أجلنا لكي ننال به الخلاص والحياة الأبديّة.
7. لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ: لدينا هنا أعظم وعد في الوجود. فالله هنا يقدم لنا وعدًا لن يتغير أو يتبدل، لأن الله أمين ولا يرجع عن وعده نهائيًا. فالرّب هنا يعد بالحياة الأبديّة والنجاة من الهلاك، وهذا الوعد ما يزال لنا اليوم إن آمنا وقبلنا عطية الله العظمى.
الفعل "يهلك" في لغتنا العربية هو ترجمة للفعل اليوناني ἀπόληται (أبوليتاي)، ويعني "يهلك ويدمّر ويضيع ويبيد ويقتل ويخسر". وهذه الكلمة مترجمة بطرق مختلفة في العهد الجديد. في مرقس 6:3 تستخدم الكلمة للموت كنقيض للحياة "وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ". وفي كورنثوس الأولى 19:1 تستخدم لإبادة أو إتلاف الشيء كنقيض للمحافظة عليه "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: سَأُبِيدُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ". وفي يوحنا الثّانية والآية 8 تعني إضاعة شيء كنقيض للربح أو المكسب "نُضَيِّعَ مَا عَمِلْنَاهُ". وفي متى 6:10 ولوقا 24:15 تستخدم للإنسان الضال والخراف الضالة "خراف بيت إسرائيل الضالة"؛ "ضالًا فوُجد".
فلو جمعنا كل هذه المعاني، لوجدنا أن الله يعد كل من يقبل محبته بأنه لن يموت إلى الأبد، ولن يضل ولن يضيع ولن يتلف. وهكذا فالذي يؤمن بالرّب يسوع له رجاء حي، أما الذين لا يؤمنون بالرّب يسوع فلا رجاء لهم، بل هم تائهون وضالون وغرباء عن الله، ومصيرهم الدينونة والعذاب الأبدي.
8. كُلُّ مَنْ: نجد هنا أنّ الفرصة متاحة للجميع ولكل من يريد وبدون تمييز. وهي أعظم فرصة تتاح للإنسان في الحياة. ولكن مع الأسف الشديد، فإن الملايين من الناس ما يزالون يرفضون هذه الفرصة.
9. يُؤْمِنُ بِهِ: يعتبر الإيمان أعظم وأهم عمل يعمله الإنسان في أيام حياته ووجوده على الأرض. إن الإيمان هو العمل الوحيد المطلوب من الإنسان لينال الغفران من الخطيّة ويربح الحياة الأبديّة. فمن يؤمن بالرّب يسوع المسيح بأنه المخلص الوحيد ينال حق دخول ورؤية ملكوت الله. ويجب الحذر هنا، فالإيمان لا يشير إلى معرفة حقائق تاريخية أو اللجوء إلى الله عند الحاجة، بل هو الثقة بالرّب يسوع وحده من أجل الخلاص من الخطيّة.
يؤمن الناس بأشياء مختلفة هذه الأيام، ولكن الإيمان الذي يضمن الخلاص الأكيد هو الإيمان "به" أي الإيمان بالرّب يسوع المسيح فقط باعتباره مخلص العالم الوحيد. في عالمنا الشرقي المتدين جدًا، نجد ملايين الناس يؤمنون بالله، ولكنهم لا يؤمنون بالرّب يسوع المسيح، ومثل هؤلاء ليس لهم حياة أبدية.
10. بَلْ: وهذا الحرف يبيّن الفرق الأعظم بين حالتين، أو أكبر مفارقة في الوجود، لأنها تبين الفرق الذي يحصل في حياة الإنسان الذي يؤمن، حيث ينتقل من حالة الضياع والموت الروحي والهلاك إلى الحياة والسعادة الأبديّة.
11. تَكُونُ لَهُ: لدينا هنا أعظم يقين في الوجود، هذا اليقين الذي يملأ قلب الإنسان بالسلام والطمأنينة. فالمؤمن الحقيقي لا يعيش قلقًا ومحتارًا وراجيًا أن ينال الحياة، بل يعيش بثقة تامة مؤسسة على وعود الله الصادقة بأن الله قد غفر خطاياه وأعطاه الحياة الأبديّة.
في الواقع أن الثقة واليقين القلبي التام بالحصول على الغفران والحياة الأبديّة هو ما يميز المؤمن المولود ثانية عن غيره من الناس، وخصوصًا المتدينين منهم. قال الرّب يسوع له المجد: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ" (يوحنا 47:6)، وقال أيضًا: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلاَمِي فَلَنْ يَرَى الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ" (يوحنا 51:8) وقال عن خرافه أنه يعطيها "وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي" (يوحنا 28:10) وكذلك "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ" (يوحنا 25:11-26). وشهد يوحنا المعمدان قائلًا بوحي من الله: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ" (يوحنا 36:3).
12. الْحَيَاةُ الأبديّة: وهي أعظم ما يمكن أن يمتلكه الإنسان في الوجود، فلا يوجد أعظم من الحصول على الحياة الأبديّة مع الرّب يسوع في ملكوت السماوات. وهذه الملكية التي يستحيل تقديرها بكل كنوز وغنى الكون هي عطية مجانية من الله المحب والقدوس، كما نقرأ في رومية 23:6 "وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ ربّنا". لا بد من التأكيد مرة أخرى أن الإنسان ينال الحياة الأبديّة لحظة إيمانه بالرّب يسوع المسيح، أي لحظة الولادة من فوق.
بعد أن فرغ الرّب يسوع من إعلان هذه الحقائق الرائعة عن محبّة الله للعالم، عاد وأكد في الآية 17 أنه "لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ"، وهو بذلك فنَّد أمام نيقوديموس التفاسير اليهودية الباطلة لما ورد في عاموس 18:5ـ20 "وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَشْتَهُونَ يَوْمَ الرّب. لِمَاذَا لَكُمْ يَوْمُ الرّب هُوَ ظَلاَمٌ لاَ نُورٌ؟ كَمَا إِذَا هَرَبَ إِنْسَانٌ مِنْ أَمَامِ الأَسَدِ فَصَادَفَهُ الدُّبُّ أَوْ دَخَلَ الْبَيْتَ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْحَائِطِ فَلَدَغَتْهُ الْحَيَّةُ! أَلَيْسَ يَوْمُ الرّب ظَلاَمًا لاَ نُورًا وَقَتَامًا وَلاَ نُورَ لَهُ؟". وقولهم أن أقوال عاموس النبي تشير إلى يوم مجيء المسيا المنتظر ليدين الأمم. نعم لم يأت الرّب يسوع من أجل الدينونة بل من أجل خلاص العالم، وقد أكد الرّب يسوع على غايته من المجيء مرارًا كثيرة، كذلك كتب بولس الرسول بوحي من الله قائلًا: "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا" (تيموثاوس الأولى 15:1).
عاد الرّب يسوع في الآية 18 وأكد على يقين الخلاص للمؤمن "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ" وعلى أن الدينونة فقط لمن لا يؤمن، حيث قال: "وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ". هذه الحقيقة تؤلم المؤمن الحقيقي، ويجب أن تدفعه للصلاة من أجل غير المؤمنين بالرّب يسوع المسيح، لأنهم إن أصروا على عنادهم ورفضهم للرب يسوع، سينالون عقاب الله ودينونته العادلة، بعكس المؤمنين بالرّب يسوع حيث: "إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ" (رومية 1:8).
لو تمعّنا النظر في طبيعة محبّة الله فسنجد أنها محبّة أبدية تشمل جميع الناس، وبأنها محبّة مثابرة ودائمة ومستمرة ومضحية وأبدية، وأنها ظهرت عمليًا في تجسد الله في شخص الرّب يسوع المسيح، وموته على الصّليب من أجل خطايا العالم، ومع ذلك يرفض الكثيرون، إن لم يكن معظم الناس محبّة الله، ولا يتجاوبون معها، وهذا ما أشار إليه الرّب يسوع المسيح في الآيات 19-21 حيث يعلمنا الرّب يسوع أنه يوجد سببان رئيسيّان لعدم قبول الناس لمحبّة الله التي ظهرت في الرّب يسوع المسيح:
1. محبّة الناس للخطية: "وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ" (يوحنا 19:3). تظهر الخطيّة للناس بأنّها لذيذة وجذّابة ومغرية، ويندفع الناس إليها بقوة، غير عالمين أن الخطيّة مثل العنكبوت المعروف بالأرملة السوداء التي تقتل وليفها. إن الخطيّة تلسع كالموت وتسحق الإنسان إلى الأبد، ومع ذلك يحب الناس الظلمة، أي الخطيّة ووسائلها وشرورها أكثر من محبتهم للنور، أي حياة التقوى والإيمان ومحبّة الرّب يسوع المسيح.
2. لأن الناس لا يحبون التوبيخ، ولا يريدون أن تنكشف عيوبهم، كما قال الرّب في 20:3 "لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلَّا تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ". في الواقع أن الله يطهر كل من يعترف بخطاياه إلى التمام (يوحنا الأولى 7:1-9)، وبالتالي فإن من يعمل السيئات هو في الواقع يرفض توبيخ الله لهذه السيئات لأنها مصدر فرح في حياته الباطلة. مثل هؤلاء الناس بحاجة أن يعلموا أن محبّة الله لهم ستبقى رغم خطاياهم، وبأن العيوب تطهّرُ لحظة التوبة بدم الرّب يسوع. حتى المؤمن قد تبقى به بعض العيوب، ومع ذلك لا يتركه الرّب، بل يعمل في حياته ويقوده إلى دروب الكمال. نعم: الله يعرف شرورنا ويبقى محبًا لنا، تمامًا كما تعرف الزوجة ما في زوجها من عيوب، وتبقى معه، وهذا هو الحق الذي يستر العيوب ويسبب الفرح والسعادة.