نوّهت في القسم الأول من المقالة، المذكور رابطه أدنى، عن وجود عدد من الإشارات إلى العهد القديم في الأصحاح الحادي عشر من إنجيل يوحنّا، فتناولت الأولى هناك. واقتطفت تاليًا ستّ إشارات، بعون من الرب وبفضل منه، فإنّ {معونتي من عند الرَّبّ صانع السماوات والأرض}+ المزمور 121: 2
الإشارة الثانية
{16فقال توما، الذي يُقال له التوأم، للتلاميذ رُفقائِه: لنذهبْ نحن أيضًا لكي نموت معه}+
والإشارة إلى: {فقالتْ راعوث: لا تُلِحِّي علَيَّ أَن أَترُكَكِ وأَرجعَ عنك، فإنّي حيثُما ذهَبتِ أَذهَبْ وحيثُما بِتِّ أَبِتْ شَعبُكِ شَعْبي وإلهُكِ إلهي. وحيثُما تَموتي أَمُتْ وهُناكَ أُدفَن...}+ راعوث 1: 16-17
وفي التفسير المسيحي:
[كان توما ضعيفًا في الإيمان، كما ظهر فيه بعد قيامة الرب، لكن الوحي يذكر هنا محبة قلبه للرب إذ ظنّ أن اليهود لا بُدّ مِن أن يقتلوه وتلاميذه معا. فارتضى أن يموت معه، لكنّهُ تكلّم بتواضع إذ جمع نفسه مع رفقائه ولم يتعظَّم عليهم كأنه أقوى منهم، كما فعل بطرس في وقت آخر]- بقلم بنيامين بنكرتن.
وتعليقي: بقول الأخ المفسِّر بنكرتن [كما فعل بطرس في وقت آخر] قصد جرأة بطرس في معجزة سير السيد المسيح على الماء أمام التلاميذ (متّى 14: 25 ومرقس 6: 48 ويوحنّا 6: 19) إذ طلب بطرس أن يأتي إلى المسيح سائرًا على الماء: {يَا سَيِّد، إنْ كنتَ أنتَ هو، فمُرني أنْ آتي إليك على الماء}+ متّى14: 28 فلم يجرؤ أحد التلاميذ على هذا الطلب غير بطرس.
ـــ ـــ
الإشارات الثالثة والرابعة والخامسة
{33فلمّا رآها يسوع تبكي، واليهود الذين جاءوا معها يبكون، انزعج بالروح واضطرب. 34وقال أين وضعتموه قالوا له يا سيد تعال وانظر. 35بكى يسوع}+
والإشارة الثالثة إلى: {في جميعِ ضيقاتِهِم اَستمَعَ لهُمْ... بمَحبَّتِهِ وحنانِهِ اَفتداهُمْ ورفَعَهُم وحمَلَهُم طَوالَ الأيّام}+ إشعياء 63: 9
والرابعة إلى النبوءة القائلة: {رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُختَبِرُ الْحَزَن... لكِنَّ أَحزانَنا حَمَلَها، وأَوجاعَنا تَحَمَّلَها... وَهُوَ مَجرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينا، مَسحُوقٌ لأَجْلِ آثامِنا...}+ إشعياء 53: 3-5
والخامسة إلى: {حَوِّلي عنّي عَينَيكِ فإنّهما قد غلبتاني}+ نشيد الأنشاد 6: 5
وفي التفسير المسيحي:
[تبكي... واليهود يبكون... بكى يسوع= الكلمات اليونانية تختلف؛ فبكاء مريم واليهود هو بكاء بصوت مسموع للتعبير الظاهري عن الحزن. أمّا بكاء يسوع فهو كلمة أخرى تُفيد "أدمعت عيناه بدون صوت" فهو تأثر من حزن مريم واليهود. نحن أمام يسوع الذي له إنسانية كاملة وله أرفع المشاعر وأرقّها، ما يمكن أن تصدر عن إنسان أمام فاجعة موت حبيب له، وأمام تفجّع ذويه عليه، بل هو حزن على ما أصاب الخليقة من موت. نحن أمام المسيح، بناسوته وعواطفه البشرية، يبكي متأثرًا أمام موقف الموت الذي هو أعظم ألم للبشر. هكذا بكى يسوع على مدينة أورشليم (لوقا 19: 41) لأنها ستهلك، فهو هنا أيضًا بكى حزنًا على مصير الإنسان. وبكاء المسيح هو شهادة عن كمال ناسوته وعن كمال مشاعر قلب الله ومحبته للإنسان {في كلّ ضِيقِهم تَضايَق}+ إشعياء 63: 9
إنزعج بالروح= هنا نحن أمام لاهوت المسيح المقتدر. لكننا أيضًا أمام ناسوت كامل؛ فالقول "انزعج" هو تعبير لا نفهمه، يعبّر عن حزنه ممّا حدث للإنسان الذي خلقه على صورته (تكوين 1: 27) وحزنه من بكاء الناس، وإرادته أن يفعل شيئًا لإنقاذ المتألّمين. كما يعبّر عمّا سيخرج منه، أيْ قوّة الحياة المُحيية، قوة تنتصر على الموت والفساد الذي لحق بجسد لعازر وعلى الشيطان وعلى الهاوية ليخرج لعازر من قبره، بل من الهاوية. فإذْ لزم شفاء نازفة الدم قوة تخرج منه (لوقا 8: 46) فكم القوة التي تُخْرِجُ هاويًا من الهاوية! هي قوة روحية هائلة، والروح هو الجزء من إنسانية المسيح الذي به هو في شركة مباشرة مع الآب.
واضطرب= نتيجة ما تحمَّل جسده من أحزان الآخرين واضطرابهم؛ فهو يشاركنا أحزاننا ويحملها عنّا (إشعياء 53: 4) وهذا التعب ظهر عليه أمام الناس. وكلمة {اضطرب} ذُكِرتْ عن المسيح ثلاث مرّات؛ هنا، وفي يوحنّا 13: 21 فهو يضطرب ويحزن للخيانة، وفي يوحنّا 12: 27 كما ذُكِرتْ كلمة {بكى} ثلاث مرات أيضا؛ هنا، وفي لوقا 19: 41 والبكاء على أورشليم كان بصوت مسموع، فهو يبكي على ما أصاب البشر. فناسوت المسيح كان ناسوتًا كاملًا وانفعالاته حقيقية. أمّا المرّة الثالثة فذكرها بولس الرسول (عبرانيّين 5: 7) وكانت عن آلام الصليب.
أين وضعتموه= يعلن عن نيّته في عمل المعجزة، وينبّه الجمهور للمعجزة الآتية فيتحوّل الجمهور لشهود عيان. والعبارة قطعًا لا تعني عدم معرفته بالمكان ولكنْ تعني: لِنذهَبْ إلى هناك، أو هلُمّ بنا إلى هناك]- بقلم القس أنطونيوس فكري.
وإليك الملاحظة التالية: [يُعتبر العدد الـ35 {بكى يسوع} هو الأقصر في الكتاب المقدَّس. وهذه هي واحدة بين ثلاث حوادث ذكر لنا العهد الجديد فيها أن يسوع قد بكى...]- بقلم وليم ماكدونالد.
الإشارتان السادسة والسابعة
{41 فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعا، ورفع يسوع عينيه إلى فوق، وقال: أيّها الآب أشكرك لأنّك سَمِعتَ لي}+
والإشارة السادسة إلى: {فكانَ إذا رَفعَ موسى يدَهُ ينتصِرُ بَنو إسرائيل...}+ الخروج 17: 11
والإشارة السابعة إلى: {لِيَكُنْ رَفعُ يَدَيَّ كَذبيحة مَسَائِيّة}+ المزامير 141: 2
وفي التفسير المسيحي:
[إنها لحظات رهيبة حيث رُفِع الحجر فظهر الجسد، وقد فاحت رائحة النتن، بينما وقف السيد المسيح مخاطِبًا الآب، شاكرًا له على أنه استمع له. إنّه من جهة يؤكد علاقته بالآب لكي يَطمَئنّ الحاضرون أنه سماوي وليس {ببعلزبول رئيس الشياطين يُخرِج الشياطين}+ لوقا 11: 15 كما ادعى بعض القادة، ومن جانب آخر لكي يكون قدوة لنا!
يقول القدّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفم: ما أقوله دومًا، أقوله الآن، إنّ المسيح لم يتطلع كثيرًا نحو كرامته قدر ما كان يتطلع إلى خلاصنا، فلا يهتم بتقديم منطوقات سامية عُلْويّة، بل ما يمكن أن يجتذبنا إليه. لهذا فأنّ أقواله العُلوية القديرة قليلة ومخفيّة، أمّا أقواله المتواضعة فكثيرة في سيرته وفيَّاضة.
فلم يتحدث بالأحرى بطريقة عامة، لئِلّا تسبب دمارًا لِمَن يأتون بعده، ولا يمتنع عنها تمامًا من جانب آخر، لئلا يتعثر الذين كانوا في ذلك الوقت. فالذين يعبرون من الانحطاط إلى الكمال يستطيعون بتعليم سامٍ منفرد أن يبلغوا إلى التعليم كلِّه، أمّا أصحاب الفكر الضعيف فأنّهم ما لم يسمعوا أقوالًا ما دون العُلويّة لا يأتوا إليه نهائيّا.
في الواقع؛ بعد أقوال كثيرة مثل هذه (عُلوية) أرادوا أن يرجموه ويضطهدوه، منها: {مغفورة لك خطاياك، إنّي أنا في الآب والآب فِيّ، قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن}+ بل حاولوا قتله إذ اعتبروه مُجَدِّفا... والآن؛ لم يستطيعوا أن يحتملوا مثل هذه المقولات، مع أنه نطق بها نادرا. فلو كانت محادثاته كلّها مشحونة بالأمور العُلوية، من هذا النسيج، فهل كانوا ليلتفتوا إليه؟ لذلك قال: {كما أوصاني الآب هكذا أفعل}+ يوحنّا 14: 31 وقال {لم آتِ مِن نفسي}+ يوحنّا 8: 42 فعندئذٍ آمَنوا.
والواضح أنّهم آمَنوا، ممّا أشار إليه الإنجيلي قائلا: "إذ قال هذه الكلمات آمَن به كثيرون"+ يوحنّا 8: 30 فإذِ اجتذبت الناسَ إلى الإيمان الكلماتُ التي حملت تواضعا، في وقت أفزعتهم الكلمات العلوية، نطق المسيح بالكلمات المتواضعة مِن أجل السامعين.
ويقول العلّامة أوريجينوس: عندما يرفع إنسان عينيه يليق به أن يرفعهما نحو السماء بطريقة لائقة، ويرفع يَدَيْن مقدَّسَتَين أيضا، ولا سيّما عندما يقدِّم الصلوات بلا غضب ولا جدال (1تيموثاوس 2: 8) فإذْ ترتفع العينان خلال التفكير والتأمل، وترتفع اليدان خلال الأعمال، ترتفع النفس وتتمجد. وذلك مثل موسى إذْ رفع يديه (خروج 71: 11) ويقول الشخص: "ليكن رفع يديّ كذبيحة مسائية"+ المزمور 141: 2 فينهزم عماليق وسائر الأعداء غير المنظورين، وتنتصر الأفكار الإسرائيلية- المعاينة لله- التي فينا]- بقلم القمّص تادرس يعقوب ملطي.
وأقول تعقيبًا على أقوال القدّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفم:
لا ننسى قول السيد المسيح لنيقوديموس- مِن رؤساء اليَهود:-
{إنْ كنت قُلتُ لكم الأرضيّات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إنْ قلتُ لكم السَّماويّات؟}+ يوحنّا 3: 12-حسب ترجمة فان دايك.
{فإذا كُنتُم لا تُصدِّقونَ ما أُخبِرُكُم عَن أمورِ الدُّنيا، فكيفَ تُصدِّقونَ إذا أخبَرتُكُم عَنْ أمورِ السَّماء؟}+ يوحنّا 3: 12- حسب الترجمة المشتركة.
وقد كتبت الترجمتين للتأكيد على ما ذكرت، فيما سبق من مقالاتي؛ هو أنّ معنى الآية في الكتاب المقدَّس واحد! مهما اختلفت جنسيّات المترجمين ومهما اختلف أسلوب الترجمة.
وفي تفسير مسيحي آخر:
[يُرينا هذا العددُ الرَّبَّ يسوع كالمعتمِد على الآب اعتمادًا كُلِّيًّا كإنسان كامل، كما يُرينا أنّه أعطى الآبَ الكرامة كلّها في المعجزة العظيمة التي كانت عتيدة أنْ تتمّ؛ إذ حوّل الأنظار عن نفسه إلى الآب وذلك برفع عينيه إلى فوق، لأنّ كثيرين من اليهود جَدَّفوا عليه قائلين إنّه {ببعلزبول رئيس الشياطين يُخرِج الشياطين} وبدأ كلامه مع الآب بكلمات الشكر مُعطيًا لنا في هذا المجال المِثالَ الكامل، إذ أنّ طلباتنا ينبغي أن تقترن بالصلاة والدعاء مع الشكر. وكانت صَلاته مستجابة دائمًا لأنه طلب الطلبات التي تتفق ومشيئة الآب، إذْ عَمِل ما يُرضي الآب كُلّ حين...]- بقلم هلال أمين.
ـــ ـــ
خِتاما؛ لعلّ القارئ-ة غير المسيحي-ة يُدرك أنّ للسيد المسيح طبيعتين: إلهية وإنسانية- ما عدا الخطيئة. فمِن الصعب التصديق أنّ إنسانا، يعيش في القرن الحادي والعشرين، يخلط بين هاتين الطبيعتين ولا يستطيع التمييز؛ إذْ وصلت أسئلة، إلى حقول التعليق على مقالاتي، يصعب تصوّر طريقة تفكير سائل كلّ منها، إمّا كان السائل هو المفكِّر ولم ينقل السؤال مِن صفحة ما من الصفحات المُضِلّة.
فالطبيعة الإلهية: هي التي قال بها المسيح أقوالًا عُلويّة وصنع المعجزات وأعطى رسله سلطانًا لصنعها. وأتباعه يحتفلون سنويًّا بذكرى ميلاده العجيب وبذكرى قيامته المجيدة من الموت وبصعوده أمام التلاميذ إلى السماء.
والطبيعة الإنسانيّة- ما عدا الخطيئة: هي التي صلّى بها وصام وعمل وأكل وشرب ونام، وفرح وشارك الناس أفراحهم (انظر-ي عرس قانا الجليل في يوحنّا\2) وتألم وبكى وشارك الناس آلامهم وأحزانهم، كما رأينا هنا، واٌستُهزئ به وضُرِب وجُلِد وصُلِب ومات حوالي ثلاثة أيّام. وأتباعه يحتفلون سنويًّا بذكرى صيامه أربعين يومًا وذكرى معموديّته مِن يوحنّا المعمدان في نهر الأردن وذكرى دخوله أورشليم في أحد الشَّعانين وذكرى آلامه وصلبه وموته.
والجدير ذِكره أنّ نبوءات كثيرة في العهد القديم حقَّقها السيد المسيح في العهد الجديد، كدخول أورشليم في أحد الشعانين والصّلب. أمّا نبوءات العهد الجديد فمِنها ماتحقّق، كخراب أورشليم سنة 70 م واضطهاد المسيحيّين، ومنها ما يتحقّق لاحقا.